
الشيطان في الرسم
أوّل إشارة إلى الشيطان وردت في كتاب العهد القديم. في البداية، لم يكن
يُنظر إليه باعتباره تجسيدا للشرّ، وإنّما كعقبة في طريق صلاح الإنسان.
وعبر القرون تحوّل الشيطان إلى رمز للشرّ والغواية. ثم أصبح أداة في يد
الساسة ورجال الدين الذين عادة ما يصمون كلّ من لا ينتمي إلى جماعتهم أو
يتبنّى معتقداتهم بالشيطان.
في العصور الوسطى، انتشرت الحكايات الشعبية عن الشياطين والساحرات على نطاق واسع. وفي العصر الحديث، ظهرت جماعات تعتقد أن الشيطان موجود فعلا وبأنه يجب أن يُعبد ضمن طقوس ما أصبح يُسمّى اليوم بعبادة الشيطان.
وعلى خلاف الأديان، فإن البهائيين لا ينظرون إلى الشيطان كقوّة شرّيرة مستقلّة بذاتها، بل هو جزء من الطبيعة الأساسية للبشر. وهو، بمعنى ما، الذات الشرّيرة في دواخلنا كبشر.
الفلاسفة والشعراء المعاصرون ينظرون إلى الشيطان باعتباره رمزا لإرادة الإنسان وتطلّعه نحو المثالية. والرسّامون الذين صوّروا الشيطان استلهموا صورته غالبا من الأعمال الأدبية.
الرسّام الفرنسيّ غوستاف دوري رسم الشيطان مرارا لرواية الفردوس المفقود لـ جون ميلتون ولكتاب الكوميديا الإلهية لـ دانتي أليغيري.
في إحدى رسومات دوري "فوق"، يظهر الشيطان وهو يمشي ذليلا منكسرا بعد أن طُرد من الجنّة. وفي لوحة أخرى يرسمه وهو يطير فوق الغيوم في طريقه لإسقاط آدم من الجنّة. وفي ثالثة وهو يشقّ طريقه صوب الأرض لإغواء البشر.
الرسّام الرمزي البلجيكي جان ديلفيل كان شخصا متديّنا ومتأثّرا بالأفكار الصوفية. وكان يؤكّد في أعماله على مخاطر المادّية والشهوات على الإنسان. في إحدى لوحاته بعنوان كنوز الشيطان ، يرسم ديلفيل الشيطان برأس مضطرب وناريّ، بينما يطوّق البشر الخاطئين والمثقلين بشهواتهم التي تأخذ هيئة الجواهر واللآليء والنساء. في اللوحة، لا يبدو البشر معاقَبين، بل عالقون في مستوى متدنّ من التطوّر الروحي.
في العصور الوسطى، انتشرت الحكايات الشعبية عن الشياطين والساحرات على نطاق واسع. وفي العصر الحديث، ظهرت جماعات تعتقد أن الشيطان موجود فعلا وبأنه يجب أن يُعبد ضمن طقوس ما أصبح يُسمّى اليوم بعبادة الشيطان.
وعلى خلاف الأديان، فإن البهائيين لا ينظرون إلى الشيطان كقوّة شرّيرة مستقلّة بذاتها، بل هو جزء من الطبيعة الأساسية للبشر. وهو، بمعنى ما، الذات الشرّيرة في دواخلنا كبشر.
الفلاسفة والشعراء المعاصرون ينظرون إلى الشيطان باعتباره رمزا لإرادة الإنسان وتطلّعه نحو المثالية. والرسّامون الذين صوّروا الشيطان استلهموا صورته غالبا من الأعمال الأدبية.
الرسّام الفرنسيّ غوستاف دوري رسم الشيطان مرارا لرواية الفردوس المفقود لـ جون ميلتون ولكتاب الكوميديا الإلهية لـ دانتي أليغيري.
في إحدى رسومات دوري "فوق"، يظهر الشيطان وهو يمشي ذليلا منكسرا بعد أن طُرد من الجنّة. وفي لوحة أخرى يرسمه وهو يطير فوق الغيوم في طريقه لإسقاط آدم من الجنّة. وفي ثالثة وهو يشقّ طريقه صوب الأرض لإغواء البشر.
الرسّام الرمزي البلجيكي جان ديلفيل كان شخصا متديّنا ومتأثّرا بالأفكار الصوفية. وكان يؤكّد في أعماله على مخاطر المادّية والشهوات على الإنسان. في إحدى لوحاته بعنوان كنوز الشيطان ، يرسم ديلفيل الشيطان برأس مضطرب وناريّ، بينما يطوّق البشر الخاطئين والمثقلين بشهواتهم التي تأخذ هيئة الجواهر واللآليء والنساء. في اللوحة، لا يبدو البشر معاقَبين، بل عالقون في مستوى متدنّ من التطوّر الروحي.

الشيطان في لوحة ديلفيل يبدو على درجة من الوسامة وبأجنحة تشبه الزعانف.
ذراعاه الشبيهان بأرجل الأخطبوط محاطان بموجات قرمزية، بينما يخطو فوق نهر
من الرجال والنساء العراة والمنوّمين بفعل ما يُفترض انه سحر وفتنة
الشيطان. الكنوز رمز لانجذاب الإنسان إلى المغانم الدنيوية. الكون في
اللوحة غامض والنار متزاوجة مع الماء. لوحة ديلفيل صورة غير عاديّة عن
الجمال الشرّير للشيطان. وربّما أراد الرسّام من خلالها تصوير مظاهر
الانحلال التي كانت سائدة في عصره.
الرسّام الاسباني لويس ريكاردو فاليرو كان معروفا بلوحاته التي لم تكن تخلو من جمال ملحوظ وإيحاءات أثيرية، وهو أمر كان يروق للكثيرين في زمانه.
وقد رسم فاليرو الشيطان من وحي مسرحية يوهان غوته عن فاوست، العالم العجوز الذي قرّر أن يبيع روحه للشيطان مقابل الخلود والمعرفة الكاملة. واللوحة تصوّر جانبا من حلم رآه فاوست. في الحلم، يجرب فاوست مغامرة الدخول إلى عالم الشياطين والساحرات. وفاوست والشيطان "ميفستوفاليس" حاضران في اللوحة، تمشيّا مع السياق الديني للأسطورة. والجنّ والشياطين يظهرون وهم يطيرون في رحلتهم السنوية إلى مكان تجمّعهم فوق قمّة الجبل، على نحو ما تذكره القصّة القديمة. الرومانسيون كانوا ينظرون إلى الشيطان على انه الظلّ القاتم الذي لولا ظلمته العميقة لما تسنّى للبشر رؤية الضوء الإلهي وتقدير عظمة النور.
لقاء فاوست مع عالم الشياطين يحدث على هيئة حلم أكثر من كونه تجربة ماديّة أو حقيقية. وردّ فعله على هذه المخلوقات ذات العيون الصغيرة والأظافر الحادّة والأيدي الرفيعة هو مزيج من التشوّش والصدمة. وفاوست يتساءل ما إذا كان هؤلاء هم الذين أضاعوا أنفسهم وصدّقوا أكاذيب الشيطان.
في فاوست، يتحدّث غوته عن جانب من التجربة الإنسانية، يتمثّل في توق البشر إلى الخلاص من كافة أشكال السلطة وتعطّشهم للمعرفة ورغبة الإنسان في تطويع الطبيعة لإرادته.
بعض النقّاد يرون في فاوست إنسانا حديثا فقد ثقته بالدين والفلسفة والعلاقات الإنسانية. وقد انتشرت هذه الأسطورة كثيرا في الأدب والسينما والشعر والرسم. كما استلهمها العديد من المؤلّفين الموسيقيّين مثل شارل غونو وفرانز ليست وماندلسون وهيكتور بيرليوز وغيرهم.
الرسّام الاسباني لويس ريكاردو فاليرو كان معروفا بلوحاته التي لم تكن تخلو من جمال ملحوظ وإيحاءات أثيرية، وهو أمر كان يروق للكثيرين في زمانه.
وقد رسم فاليرو الشيطان من وحي مسرحية يوهان غوته عن فاوست، العالم العجوز الذي قرّر أن يبيع روحه للشيطان مقابل الخلود والمعرفة الكاملة. واللوحة تصوّر جانبا من حلم رآه فاوست. في الحلم، يجرب فاوست مغامرة الدخول إلى عالم الشياطين والساحرات. وفاوست والشيطان "ميفستوفاليس" حاضران في اللوحة، تمشيّا مع السياق الديني للأسطورة. والجنّ والشياطين يظهرون وهم يطيرون في رحلتهم السنوية إلى مكان تجمّعهم فوق قمّة الجبل، على نحو ما تذكره القصّة القديمة. الرومانسيون كانوا ينظرون إلى الشيطان على انه الظلّ القاتم الذي لولا ظلمته العميقة لما تسنّى للبشر رؤية الضوء الإلهي وتقدير عظمة النور.
لقاء فاوست مع عالم الشياطين يحدث على هيئة حلم أكثر من كونه تجربة ماديّة أو حقيقية. وردّ فعله على هذه المخلوقات ذات العيون الصغيرة والأظافر الحادّة والأيدي الرفيعة هو مزيج من التشوّش والصدمة. وفاوست يتساءل ما إذا كان هؤلاء هم الذين أضاعوا أنفسهم وصدّقوا أكاذيب الشيطان.
في فاوست، يتحدّث غوته عن جانب من التجربة الإنسانية، يتمثّل في توق البشر إلى الخلاص من كافة أشكال السلطة وتعطّشهم للمعرفة ورغبة الإنسان في تطويع الطبيعة لإرادته.
بعض النقّاد يرون في فاوست إنسانا حديثا فقد ثقته بالدين والفلسفة والعلاقات الإنسانية. وقد انتشرت هذه الأسطورة كثيرا في الأدب والسينما والشعر والرسم. كما استلهمها العديد من المؤلّفين الموسيقيّين مثل شارل غونو وفرانز ليست وماندلسون وهيكتور بيرليوز وغيرهم.

كوابيس كافكا
إن كنت تتطلّع لقراءة رواية فيها أشياء من دوستويفسكي ونيتشه وبيكيت وسارتر
في وقت واحد، فإن هذه الرواية قد تلبّي طموحك. "القلعة" هي أجمل روايات
فرانز كافكا، وربّما أكثرها إثارة للمشاعر. صحيح أن المحاكمة والمسخ مليئتان بعمقهما الخاصّ وبحزنهما المعقّد، لكنهما لا تتركان في النفس مثل هذا الإحساس اللاذع بغربة الإنسان وعبثية الحياة.
"القلعة" هي قصّة (ك)، الذي يدّعي أنه مسّاح أراض أرسله شخص مجهول لغرض ما غير معروف إلى القلعة. القلعة نفسها مكان مجهول. كما أن القارئ لا يعرف على وجه التحديد ما الذي يُفترض أن ينجزه (ك) هناك.
السرد في هذه الرواية لا يتحرّك نحو نهاية أو غاية واضحة. وبدلا من ذلك، يقدّم كافكا للقارئ سلسلة من الإحباطات وهو يتابع محاولات (ك) المتكرّرة كي ينجز عمله. ومع ذلك لا يستطيع أن يتحرّك أبعد من محيط القلعة الشبحي.
(ك) لا يُسمح له أبدا بدخول القلعة. كما انه لا يستطيع العودة إلى بيته. ويُترك لوحده وهو يواجه ثنائيات اليقين والشك، الأمل والخوف، في كفاحه الذي لا ينتهي وهو ينتقل من متاهة لأخرى.
بدأ كافكا كتابة "القلعة" عام 1922م. ولم ينتهِ منها أبدا. ومع ذلك، فهذه الرواية، آخر رواياته الثلاث العظيمة، تستخلص نتائج رائعة تجعلها تبدو كاملة بشكل غريب. في الاستهلال المشهور للرواية، فإن القلعة حاضرة بشكل مشئوم حتى في غيابها. "في وقت متأخّر من الليل وصل (ك). كانت القرية قابعة في عمق الظلام والثلج. التلّة التي تقوم عليها القلعة يحجبها الضباب والعتمة. لم يكن هناك أدنى بصيص ضوء يمكن أن يكشف عن وجودها. وعلى الجسر الخشبيّ المؤدّي إلى القرية، وقف (ك) لفترة طويلة وهو يحدّق في الفراغ الوهمي فوقه". الوصف القوطي للمكان طوال الرواية مثير للمشاعر على نحو لا يطاق. وهو يلمّح إلى وجود عناصر من السرّية وربّما الخداع. لكن رغم الظلمة، فإن (ك) يعلم بوضوح عن وجود القلعة بدليل تحديقه الطويل في الظلام فوقه.
كافكا يجلب القارئ إلى منطقة باردة وغير مضيافة ولا يوجد فيها ضوء سوى بالكاد. ولا بدّ وأن يشعر المرء بكمّية الجهد البدني المبذول للتعامل مع هذا المكان الذي تحيطه الثلوج الكثيفة من كلّ جانب.
في صباح اليوم التالي، يرى (ك) القلعة فوقه واضحة المعالم في الهواء. ثم يكتشف أنها مجرّد بلدة بائسة المظهر تتألّف من كومة من المباني الصغيرة المحشورة معا. وميزتها الوحيدة، إن وجدت، تتمثّل في أنها مبنيّة من الحجر. "كان الجبس قد تقشّر منذ فترة طويلة والحجر يبدو أنه ينهار".
جوّ ومزاج الرواية اللذان يصعب وصفهما هما اللذان يمنحانها سماتها الخاصّة. ومع ذلك فإنك لن تفهمها على وجه التحديد، ولن تستطيع التعبير تماما عن ما تعنيه. وهذا ما يفعله كافكا. انه يزعزع استقرار القارئ بالكتابة عن الأشياء المألوفة في الحياة اليومية. ولكنّه يموّهها بحيث تبدو لنا الحياة مثل حلم غريب أو قصّة من قصص الخيال. وعندما تغلق صفحات الرواية وتعود إلى الواقع، ستتجلّى أمام عينيك كافّة مشاعر اليأس التي اعتدنا أن نستبعدها كي نستمرّ في أداء أعمالنا اليومية المعتادة.
هذا الكتاب سيجعلك حزينا بسبب الأشياء المفقودة في حياتك. إننا شهود على نضال (ك) غير المجدي من اجل الاعتراف والاحترام. كيانه كلّه يتقوّض من قبل أولئك الذين لا يعترفون بمهمّته أو حقّه في أن يكون له مكان. كافكا يأخذك بعيدا عن حياتك الخاصّة بكلّ تعبها ومعاناتها، فقط لكي يعيدك محطّما إلى واقع جديد يتعيّن عليك فيه أن تواجه بعض هذه الحقائق التي كدت تنساها.
في القلعة، يتمّ تضليل البطل باستمرار ويعامَل بطريقة غير إنسانية. إنه شخص عاجز بلا حول ولا قوّة ومستعبد لقوى خارجة عن إرادته ولا يستطيع الفكاك من سيطرتها. كما انه لا يعرف مصدر تلك القوى التي تضطهده وتهمّشه. القارئ الحديث يجد في هذه الرواية صدى لواقعه هو، فهو أيضا يشعر بالعجز في مواجهة انهيار النظم المصرفية وتخريب المؤسّسات المالية وانتشار الفساد، والذي يؤثّر على حياته كثيرا. إننا لا نعرف أيضا أين تقع السلطة المسئولة عن هذا الفساد، ما يضفي على الواقع طابعا كابوسيّا.
هل القلعة كناية عن الله؟ الدين؟ البيروقراطية الحكومية والسياسية؟ الوطن؟ السلطة؟ إن من الخطأ أن ننظر إلى القلعة، أو حتى المحاكمة، باعتبارها معنيّة بالبيروقراطية وغياب العدالة. مثل هذه القراءة تقلّل من أهمّية مشروع كافكا الفنّي، بل وتختزله بالضرورة. كافكا يكتب عن أشياء بسيطة ومهمّة: مشاعر الوحدة والألم والتوق إلى صحبة البشر وحاجة الإنسان إلى الاحترام والفهم.
لم يكن كافكا يشعر انه يعيش في وطن. وكان يشتكي دائما من غياب إحساسه بالهويّة. ومن المرجّح أن كلّ هذه الأشياء، أو بعضها، تمثّل أجزاء من الطبيعة المتعدّدة الجوانب لهذه الرواية المزعجة.
بطل كافكا المأساوي لا يمكن اعتباره بطلا على الإطلاق. فهو دائما يعمل لخدمة أهواء الآخرين، سواءً كانوا مسئولين، أو قضاة، أو سلطة .. إلى آخره. والقلعة يمكن أن تكون رمزا للقوى التي تتحكّم في مصائرنا وتهمّشنا وتمنع نموّنا، سواءً كانت تلك القوى سياسية أو اجتماعية أو سيكولوجية أو عاطفية. وهذا هو السبب في أننا يجب أن نقاومها دائما ونسعى لكشف الصدوع والثغرات في بُنيتها الاستبدادية. الألم والحيرة اللذان يشعر بهما (ك) هما صدى لألم وحيرة أولئك الذين يحسّون بأن هذا العالم يثقل كاهلهم ويضغط على أنفاسهم.
ربّما تكون هذه الرواية أعظم أعمال كافكا. وهي تجسّد بوضوح حكمته المأثورة في أن الكتابة يجب أن تكون فأسا يكسر البحر المتجمّد في دواخلنا.
كافكا هو الحقنة التي تسحب دم القارئ. وهو القلم الذي يكتب بذلك الدم. "مترجم".
"القلعة" هي قصّة (ك)، الذي يدّعي أنه مسّاح أراض أرسله شخص مجهول لغرض ما غير معروف إلى القلعة. القلعة نفسها مكان مجهول. كما أن القارئ لا يعرف على وجه التحديد ما الذي يُفترض أن ينجزه (ك) هناك.
السرد في هذه الرواية لا يتحرّك نحو نهاية أو غاية واضحة. وبدلا من ذلك، يقدّم كافكا للقارئ سلسلة من الإحباطات وهو يتابع محاولات (ك) المتكرّرة كي ينجز عمله. ومع ذلك لا يستطيع أن يتحرّك أبعد من محيط القلعة الشبحي.
(ك) لا يُسمح له أبدا بدخول القلعة. كما انه لا يستطيع العودة إلى بيته. ويُترك لوحده وهو يواجه ثنائيات اليقين والشك، الأمل والخوف، في كفاحه الذي لا ينتهي وهو ينتقل من متاهة لأخرى.
بدأ كافكا كتابة "القلعة" عام 1922م. ولم ينتهِ منها أبدا. ومع ذلك، فهذه الرواية، آخر رواياته الثلاث العظيمة، تستخلص نتائج رائعة تجعلها تبدو كاملة بشكل غريب. في الاستهلال المشهور للرواية، فإن القلعة حاضرة بشكل مشئوم حتى في غيابها. "في وقت متأخّر من الليل وصل (ك). كانت القرية قابعة في عمق الظلام والثلج. التلّة التي تقوم عليها القلعة يحجبها الضباب والعتمة. لم يكن هناك أدنى بصيص ضوء يمكن أن يكشف عن وجودها. وعلى الجسر الخشبيّ المؤدّي إلى القرية، وقف (ك) لفترة طويلة وهو يحدّق في الفراغ الوهمي فوقه". الوصف القوطي للمكان طوال الرواية مثير للمشاعر على نحو لا يطاق. وهو يلمّح إلى وجود عناصر من السرّية وربّما الخداع. لكن رغم الظلمة، فإن (ك) يعلم بوضوح عن وجود القلعة بدليل تحديقه الطويل في الظلام فوقه.
كافكا يجلب القارئ إلى منطقة باردة وغير مضيافة ولا يوجد فيها ضوء سوى بالكاد. ولا بدّ وأن يشعر المرء بكمّية الجهد البدني المبذول للتعامل مع هذا المكان الذي تحيطه الثلوج الكثيفة من كلّ جانب.
في صباح اليوم التالي، يرى (ك) القلعة فوقه واضحة المعالم في الهواء. ثم يكتشف أنها مجرّد بلدة بائسة المظهر تتألّف من كومة من المباني الصغيرة المحشورة معا. وميزتها الوحيدة، إن وجدت، تتمثّل في أنها مبنيّة من الحجر. "كان الجبس قد تقشّر منذ فترة طويلة والحجر يبدو أنه ينهار".
جوّ ومزاج الرواية اللذان يصعب وصفهما هما اللذان يمنحانها سماتها الخاصّة. ومع ذلك فإنك لن تفهمها على وجه التحديد، ولن تستطيع التعبير تماما عن ما تعنيه. وهذا ما يفعله كافكا. انه يزعزع استقرار القارئ بالكتابة عن الأشياء المألوفة في الحياة اليومية. ولكنّه يموّهها بحيث تبدو لنا الحياة مثل حلم غريب أو قصّة من قصص الخيال. وعندما تغلق صفحات الرواية وتعود إلى الواقع، ستتجلّى أمام عينيك كافّة مشاعر اليأس التي اعتدنا أن نستبعدها كي نستمرّ في أداء أعمالنا اليومية المعتادة.
هذا الكتاب سيجعلك حزينا بسبب الأشياء المفقودة في حياتك. إننا شهود على نضال (ك) غير المجدي من اجل الاعتراف والاحترام. كيانه كلّه يتقوّض من قبل أولئك الذين لا يعترفون بمهمّته أو حقّه في أن يكون له مكان. كافكا يأخذك بعيدا عن حياتك الخاصّة بكلّ تعبها ومعاناتها، فقط لكي يعيدك محطّما إلى واقع جديد يتعيّن عليك فيه أن تواجه بعض هذه الحقائق التي كدت تنساها.
في القلعة، يتمّ تضليل البطل باستمرار ويعامَل بطريقة غير إنسانية. إنه شخص عاجز بلا حول ولا قوّة ومستعبد لقوى خارجة عن إرادته ولا يستطيع الفكاك من سيطرتها. كما انه لا يعرف مصدر تلك القوى التي تضطهده وتهمّشه. القارئ الحديث يجد في هذه الرواية صدى لواقعه هو، فهو أيضا يشعر بالعجز في مواجهة انهيار النظم المصرفية وتخريب المؤسّسات المالية وانتشار الفساد، والذي يؤثّر على حياته كثيرا. إننا لا نعرف أيضا أين تقع السلطة المسئولة عن هذا الفساد، ما يضفي على الواقع طابعا كابوسيّا.
هل القلعة كناية عن الله؟ الدين؟ البيروقراطية الحكومية والسياسية؟ الوطن؟ السلطة؟ إن من الخطأ أن ننظر إلى القلعة، أو حتى المحاكمة، باعتبارها معنيّة بالبيروقراطية وغياب العدالة. مثل هذه القراءة تقلّل من أهمّية مشروع كافكا الفنّي، بل وتختزله بالضرورة. كافكا يكتب عن أشياء بسيطة ومهمّة: مشاعر الوحدة والألم والتوق إلى صحبة البشر وحاجة الإنسان إلى الاحترام والفهم.
لم يكن كافكا يشعر انه يعيش في وطن. وكان يشتكي دائما من غياب إحساسه بالهويّة. ومن المرجّح أن كلّ هذه الأشياء، أو بعضها، تمثّل أجزاء من الطبيعة المتعدّدة الجوانب لهذه الرواية المزعجة.
بطل كافكا المأساوي لا يمكن اعتباره بطلا على الإطلاق. فهو دائما يعمل لخدمة أهواء الآخرين، سواءً كانوا مسئولين، أو قضاة، أو سلطة .. إلى آخره. والقلعة يمكن أن تكون رمزا للقوى التي تتحكّم في مصائرنا وتهمّشنا وتمنع نموّنا، سواءً كانت تلك القوى سياسية أو اجتماعية أو سيكولوجية أو عاطفية. وهذا هو السبب في أننا يجب أن نقاومها دائما ونسعى لكشف الصدوع والثغرات في بُنيتها الاستبدادية. الألم والحيرة اللذان يشعر بهما (ك) هما صدى لألم وحيرة أولئك الذين يحسّون بأن هذا العالم يثقل كاهلهم ويضغط على أنفاسهم.
ربّما تكون هذه الرواية أعظم أعمال كافكا. وهي تجسّد بوضوح حكمته المأثورة في أن الكتابة يجب أن تكون فأسا يكسر البحر المتجمّد في دواخلنا.
كافكا هو الحقنة التي تسحب دم القارئ. وهو القلم الذي يكتب بذلك الدم. "مترجم".

التاريخ السرّي
"كان الثلج قد بدأ يذوب في الجبال، و"بوني" كان قد مضى على موته عدّة
أسابيع قبل أن نبدأ في إدراك مدى خطورة الحالة التي كنّا فيها".
لو قرأت هذه العبارة مرّة أخرى فستكتشف أنها استهلال عظيم لرواية. إنه لا يقول لك فقط أن هناك حالة وفاة، ويذكر اسم الشخص المتوفّى وكم مضى على موته، ولكنّه أيضا يقول إن مجموعة من الأشخاص ليسوا معنيّين بموت زميلهم بقدر ما هم مهتمّون بمصيرهم هم.
بعد مرور تسعة عشر عاما على صدور رواية التاريخ السرّي لـ دونا تارت، وبالرغم من كلّ ما قيل وكُتب عنها، ما تزال هذه الرواية تحظى باهتمام النقّاد والقرّاء وما يزال بالإمكان قول الكثير عنها.
هناك أشياء عديدة تدفع الناس للإعجاب برواية تارت. لكنّها جديرة بالثناء بشكل خاصّ للطريقة المقنعة التي تتحدّث بها الكاتبة عن دراسة الأدب الكلاسيكي، وكيف يمكن أن تؤثّر قراءة بعض الأعمال الكلاسيكية في القارئ إلى الحدّ الذي قد يدفعه لارتكاب جريمة قتل.
والفكرة ليست جديدة تماما. ففي احد أفلام هيتشكوك من حقبة الأربعينات، يتآمر طالبان متأثّران بأفكار مدير مدرستهما الإعدادية، المتأثّر هو الآخر بتعاليم فريدريك نيتشه، لارتكاب جريمة قتل. وفي ذروة حماسهما للذهاب إلى ما هو ابعد من الخير والشرّ، يقومان بخنق احد زملائهما حتى الموت. ثم يصرّحان، تقريبا، للمحقّقين بالأدلّة التي تدينهما كي يعزّزا شعورهما بالتفوّق وسعيهما الفكري لتحقيق الذات.
عملية القتل في رواية التاريخ السرّي لا تأتي من معلّم نيتشوي، وإنما من خلال تأثير أستاذ ليّن الكلام يعلّم الأدب الكلاسيكي واللغة اليونانية القديمة لخمسة من الطلاب في الجامعة.
شيئا فشيئا، تتطوّر علاقة الأستاذ بهذه المجموعة الصغيرة من الطلاب إلى نمط غير صحّي من عبادة الشخصية بنكهة وثنية. وعبر خطوات تدرّجية، يصبح الطلاب الخمسة مهجوسين بطقوس السُكر والشراب. وفي إحدى حفلاتهم الماجنة، وتحت تأثير النشوة الديونيسية المتوحّشة، يقومون بقتل احدهم.
صحيح أن مثل هذا الانتقال صعب. لكن الكاتبة تنقله بطريقة قابلة للتصديق. وهي تروي القصّة من منظور المتآمر الأكثر لطفا في حلقة المتآمرين. وتحاول إقناع القارئ بأن سلسلة من الأحداث العشوائية يمكن أن تؤثّر في طالب دمث الأخلاق يهوى اللغات القديمة فتحوّله في النهاية إلى قاتل. الحميمية التي تحضّر الكاتبة من خلالها القارئ للدخول في الجوّ النفسي الخانق للمؤامرة هي أحد أكثر الملامح إثارة في هذه الرواية.
في حصّته الأولى، يلقي أستاذ الأدب الكلاسيكي الغريب الأطوار جوليان مورو على طلابه محاضرة بليغة، ولكن مشئومة، عن انجذاب اليونانيين القدماء لكلّ ما هو غير منطقي. ثم يقارن ذلك بميل الرومان إلى تجنّب كلّ ما يشير إلى الجوانب المظلمة في النفس الإنسانية.
وتصوّر الكاتبة في لقطات رائعة الكاريزما التي يتمتّع بها مورو ومعرفته الواسعة والجوّ الدافئ لمحاضراته.
"الجمال هو الرعب. هذه فكرة يونانية صميمة وعميقة جدّا. كلّ ما نسمّيه جميلا نرتعش أمامه. ترى ما الذي يمكن أن يكون أكثر هولا وجمالا، بالنسبة للإغريق أو لنا، من أن نفقد السيطرة تماما، نتخلّص من قيود كينونتنا للحظات، ونتجاهل حقيقة أننا محكومون بالفناء"!
"يوريبيديس كان يتحدّث عن ينابيع العسل والحليب المتدفّقة من الأرض وعن المينادات. كانوا غزلانا أكثر منهم بشرا. هذا ما يعنيه أن تكون حرّا تماما".
"كم هو رائع أن تطلق هذه المشاعر دفعة واحدة، أن تغنّي، تصرخ، ترقص حافي القدمين في الغابة في سكون الليل، وأن تتساوى مع الحيوان في إدراكه للفناء".
"عندما كنت أمشي إلى المنزل ليلا، تحوّلت الأشياء إلى ابيض حول الأطراف. وبدا أن ليس لي ماض ولا ذكريات وأنني أسير على هذا الطريق المضيء إلى الأبد".
"إذا كنّا أقوياء بما فيه الكفاية، فإن بمقدور أرواحنا أن تمزّق الحُجب وتنظر إلى ذلك الجمال العاري والرهيب مباشرة. لندع الله يستهلكنا، يلتهمنا ويهشّم عظامنا ثم يلفظنا كي نولد من جديد".
دونا تارت تخلق في روايتها أمزجة متنوّعة وتستحضر أمكنة مختلفة. براعتها السردية وأسلوبها الشاعري وقوّتها الوصفية وحواراتها واهتمامها بالتفاصيل، كلّها عناصر لا تقاوم.
القيم والأفكار الفلسفية التي يحدّدها الأستاذ تلقي بظلالها على عدد من الوقائع التالية في هذا الكتاب المحبوك بذكاء. والمؤلّفة تبدو في أفضل حالاتها وهي تمزج بأسلوب لذيذ المجرّد والملموس، النظري والعملي، الحاضر والماضي التاريخي والمستقبل الذي تتكشّف ملامحه القاتلة تباعا.
الجانب الوحيد المخيّب للآمال في رواية التاريخ السرّي هو أن مؤلّفتها كتبتها وهي في الثامنة والعشرين من عمرها. وعندما تخطّت الثلاثين كتبت روايتها الثانية. وهذا يعني أننا لن نرى روايتها الثالثة إلا بعد أن تتخطّى الأربعين من عمرها. ومع إنتاج قليل مثل هذا فإن الكاتبة قد تجد نفسها في النهاية خارج أضواء الأدب وبعيدا عن اهتمام النقّاد. "مترجم".

لو قرأت هذه العبارة مرّة أخرى فستكتشف أنها استهلال عظيم لرواية. إنه لا يقول لك فقط أن هناك حالة وفاة، ويذكر اسم الشخص المتوفّى وكم مضى على موته، ولكنّه أيضا يقول إن مجموعة من الأشخاص ليسوا معنيّين بموت زميلهم بقدر ما هم مهتمّون بمصيرهم هم.
بعد مرور تسعة عشر عاما على صدور رواية التاريخ السرّي لـ دونا تارت، وبالرغم من كلّ ما قيل وكُتب عنها، ما تزال هذه الرواية تحظى باهتمام النقّاد والقرّاء وما يزال بالإمكان قول الكثير عنها.
هناك أشياء عديدة تدفع الناس للإعجاب برواية تارت. لكنّها جديرة بالثناء بشكل خاصّ للطريقة المقنعة التي تتحدّث بها الكاتبة عن دراسة الأدب الكلاسيكي، وكيف يمكن أن تؤثّر قراءة بعض الأعمال الكلاسيكية في القارئ إلى الحدّ الذي قد يدفعه لارتكاب جريمة قتل.
والفكرة ليست جديدة تماما. ففي احد أفلام هيتشكوك من حقبة الأربعينات، يتآمر طالبان متأثّران بأفكار مدير مدرستهما الإعدادية، المتأثّر هو الآخر بتعاليم فريدريك نيتشه، لارتكاب جريمة قتل. وفي ذروة حماسهما للذهاب إلى ما هو ابعد من الخير والشرّ، يقومان بخنق احد زملائهما حتى الموت. ثم يصرّحان، تقريبا، للمحقّقين بالأدلّة التي تدينهما كي يعزّزا شعورهما بالتفوّق وسعيهما الفكري لتحقيق الذات.
عملية القتل في رواية التاريخ السرّي لا تأتي من معلّم نيتشوي، وإنما من خلال تأثير أستاذ ليّن الكلام يعلّم الأدب الكلاسيكي واللغة اليونانية القديمة لخمسة من الطلاب في الجامعة.
شيئا فشيئا، تتطوّر علاقة الأستاذ بهذه المجموعة الصغيرة من الطلاب إلى نمط غير صحّي من عبادة الشخصية بنكهة وثنية. وعبر خطوات تدرّجية، يصبح الطلاب الخمسة مهجوسين بطقوس السُكر والشراب. وفي إحدى حفلاتهم الماجنة، وتحت تأثير النشوة الديونيسية المتوحّشة، يقومون بقتل احدهم.
صحيح أن مثل هذا الانتقال صعب. لكن الكاتبة تنقله بطريقة قابلة للتصديق. وهي تروي القصّة من منظور المتآمر الأكثر لطفا في حلقة المتآمرين. وتحاول إقناع القارئ بأن سلسلة من الأحداث العشوائية يمكن أن تؤثّر في طالب دمث الأخلاق يهوى اللغات القديمة فتحوّله في النهاية إلى قاتل. الحميمية التي تحضّر الكاتبة من خلالها القارئ للدخول في الجوّ النفسي الخانق للمؤامرة هي أحد أكثر الملامح إثارة في هذه الرواية.
في حصّته الأولى، يلقي أستاذ الأدب الكلاسيكي الغريب الأطوار جوليان مورو على طلابه محاضرة بليغة، ولكن مشئومة، عن انجذاب اليونانيين القدماء لكلّ ما هو غير منطقي. ثم يقارن ذلك بميل الرومان إلى تجنّب كلّ ما يشير إلى الجوانب المظلمة في النفس الإنسانية.
وتصوّر الكاتبة في لقطات رائعة الكاريزما التي يتمتّع بها مورو ومعرفته الواسعة والجوّ الدافئ لمحاضراته.
"الجمال هو الرعب. هذه فكرة يونانية صميمة وعميقة جدّا. كلّ ما نسمّيه جميلا نرتعش أمامه. ترى ما الذي يمكن أن يكون أكثر هولا وجمالا، بالنسبة للإغريق أو لنا، من أن نفقد السيطرة تماما، نتخلّص من قيود كينونتنا للحظات، ونتجاهل حقيقة أننا محكومون بالفناء"!
"يوريبيديس كان يتحدّث عن ينابيع العسل والحليب المتدفّقة من الأرض وعن المينادات. كانوا غزلانا أكثر منهم بشرا. هذا ما يعنيه أن تكون حرّا تماما".
"كم هو رائع أن تطلق هذه المشاعر دفعة واحدة، أن تغنّي، تصرخ، ترقص حافي القدمين في الغابة في سكون الليل، وأن تتساوى مع الحيوان في إدراكه للفناء".
"عندما كنت أمشي إلى المنزل ليلا، تحوّلت الأشياء إلى ابيض حول الأطراف. وبدا أن ليس لي ماض ولا ذكريات وأنني أسير على هذا الطريق المضيء إلى الأبد".
"إذا كنّا أقوياء بما فيه الكفاية، فإن بمقدور أرواحنا أن تمزّق الحُجب وتنظر إلى ذلك الجمال العاري والرهيب مباشرة. لندع الله يستهلكنا، يلتهمنا ويهشّم عظامنا ثم يلفظنا كي نولد من جديد".
دونا تارت تخلق في روايتها أمزجة متنوّعة وتستحضر أمكنة مختلفة. براعتها السردية وأسلوبها الشاعري وقوّتها الوصفية وحواراتها واهتمامها بالتفاصيل، كلّها عناصر لا تقاوم.
القيم والأفكار الفلسفية التي يحدّدها الأستاذ تلقي بظلالها على عدد من الوقائع التالية في هذا الكتاب المحبوك بذكاء. والمؤلّفة تبدو في أفضل حالاتها وهي تمزج بأسلوب لذيذ المجرّد والملموس، النظري والعملي، الحاضر والماضي التاريخي والمستقبل الذي تتكشّف ملامحه القاتلة تباعا.
الجانب الوحيد المخيّب للآمال في رواية التاريخ السرّي هو أن مؤلّفتها كتبتها وهي في الثامنة والعشرين من عمرها. وعندما تخطّت الثلاثين كتبت روايتها الثانية. وهذا يعني أننا لن نرى روايتها الثالثة إلا بعد أن تتخطّى الأربعين من عمرها. ومع إنتاج قليل مثل هذا فإن الكاتبة قد تجد نفسها في النهاية خارج أضواء الأدب وبعيدا عن اهتمام النقّاد. "مترجم".

رسالة حبّ إلى لوحة
بعض
اللوحات ترفض أن تبقى ساكنة على الحائط. الأشخاص فيها ينزلقون إلى خارج
الإطار، يلغون اللحظة الثابتة في الصورة ويدفعوننا إلى تخيّل أحوالهم وقصص
حياتهم.
وعلى غرار رواية ايريس موردوك عن لوحة تيشيان الحبّ المقدس والحبّ الدنيوي، ورواية تريسي شيفالييه عن لوحة فيرمير الفتاة ذات القرط اللؤلؤي، تتتبّع مؤرّخة الفنّ كارولا هيكس في كتابها فتاة بفستان اخضر، تاريخ إحدى أكثر اللوحات في العالم شهرة وغموضا.
وهيكس تستخدم مهارتها في الطبّ الشرعي في محاولة لفكّ غموض هذه اللوحة وتروي كيف أنها نجت، طوال أكثر من أربعة قرون، من الحرائق والمعارك والرحلات البحرية الخطرة. كما تتحدّث عن دور اللوحة بوصفها مرآة تعكس ثقافة وتاريخ الزمن الذي ظهرت فيه.
بورتريه الزوجين ارنولفيني للرسّام الهولندي يان فان آيك يحيّر كلّ من يراه. الخبراء والعامّة، على حدّ سواء، يتساءلون عن معنى هذا الجوهرة المؤرّقة من فنّ القرون الوسطى. الزوجان الغامضان في اللوحة يبدو أنهما ينقلان لنا رسالة من وراء القرون. لكن ما هي؟ هل اللوحة احتفال بالزواج أو الحمل؟ محاولة لإحياء ذكرى زوجة شابّة توفّيت أثناء ولادتها لطفلها؟ بيان عن الموضة في ذلك الزمان؟ أم أنها رمز للمكانة أو الوجاهة الاجتماعية للرجل والمرأة الظاهرين فيها؟
الزوجان ارنولفيني كان لهما حياة أخرى حافلة بالأحداث في الخيال. فقد كانا دائما موضوعا لسجالات النقّاد وسخرية رسّامي الكاريكاتير. احد الكتّاب افترض أن الفتاة ذات المظهر الرقيق تخبّئ خلف طيّات ثوبها طفلا. وقال آخر إن اللوحة ربّما تتحدّث عن زواج بالإكراه. وكانت آخر مرّة ظهرت فيها اللوحة في المسلسل المعروف زوجات يائسات.
كارولا هيكس تلخّص هذا التاريخ اللزج للوحة، ولكنها لا تضيف إليه الشيء الكثير. غرضها في الأساس هو أن تتحقّق من مضامين اللوحة، وتدقّق في ديكورها الذي رسمه الفنّان بدقّة فائقة. كما ترصد المؤلّفة مسار اللوحة خلال أربعمائة عام انتقلت خلالها بين عدد من البيوت المالكة الأوروبية ونُهبت كغنيمة حرب، قبل أن تصل أخيرا إلى ملاذها الآمن بالقرب من ساحة الطرف الأغرّ في لندن.
تقول هيكس: الفنّ بحاجة إلى مال. كما انه يتبع السلطة. ولهذا السبب سرعان ما أصبحت لوحة فان آيك لعبة ملكية. في البداية، كانت اللوحة جزءا من تراث عائلة هابسبيرغ. ثم وقعت في يد فيليب الثاني ملك اسبانيا الذي كان يفضّل هيرونيموس بوش على فان آيك.
سليل فيليب، أي كارلوس الثالث، وضع اللوحة في مخزن مهجور. لكنّها انتُشلت في ما بعد، أو على الأصح اشتُريت من قبل أحد جنود ويلينغتون بعد معركة فيتوريا عام 1813.
وبهذه الطريقة جُلبت اللوحة إلى لندن. وقد ابتاعها الناشيونال غاليري، الوليد آنذاك؛ أي عام 1842م، بمبلغ ستّمائة جنيه، وهو سعر زهيد نسبيّا.
ومن هناك ترسّخت شهرة اللوحة بعد أن احتفى بها الرسّامون ما قبل الرافائيليين. ولم يمضِ وقت كثير حتى دخلت اللوحة حيّز الوعي الفنّي الأوسع.
الكاتبة تنقل الحقائق المعروفة كما هي. لكنّها لا تقدّم كشوفا أو تفسيرات جديدة. كما أنها لا تشير إلى السبب الذي جعلها تختار هذه اللوحة بالذات لكتابها، ولا ما الذي تعنيه لها اللوحة وما الذي يجعلها عملا أيقونيّا.
ماذا عن الزوجين ارنولفيني؟ ما هو سرّ تقطيب الرجل الذي تشبه ملامحه ملامح فلاديمير بوتين؟ من هم ضيوف الزوجين الذين نلمح صورهم منعكسة في المرآة على الحائط الخلفي؟ وما سرّ وجود سرير في غرفة الاستقبال؟
من الواضح أن كارولا هيكس تعشق هذه اللوحة كثيرا. ويصحّ اعتبار كتابها هذا رسالة حبّ إلى اللوحة. لكنّ المؤسف أن المؤلّفة رحلت عنّا في سنّ صغيرة نسبيّا وقبل أن تكمل كتابها الذي يبدو انه لم يُطبخ تماما.
وهذا الكتاب، في النهاية، هو تذكير لنا بأننا لا نعيش داخل بيت هذا التاجر، أي ارنولفيني، الذي يشبه عالم بيت الدمية الذي لا يمكن بلوغه أو سبر أسراره.
صحيح أن الكتاب يتضمّن الكثير عن التاريخ اللاحق للوحة. لكنه لا يتحدّث سوى عن القليل جدّا من أسرارها الداخلية. "مترجم".
وعلى غرار رواية ايريس موردوك عن لوحة تيشيان الحبّ المقدس والحبّ الدنيوي، ورواية تريسي شيفالييه عن لوحة فيرمير الفتاة ذات القرط اللؤلؤي، تتتبّع مؤرّخة الفنّ كارولا هيكس في كتابها فتاة بفستان اخضر، تاريخ إحدى أكثر اللوحات في العالم شهرة وغموضا.
وهيكس تستخدم مهارتها في الطبّ الشرعي في محاولة لفكّ غموض هذه اللوحة وتروي كيف أنها نجت، طوال أكثر من أربعة قرون، من الحرائق والمعارك والرحلات البحرية الخطرة. كما تتحدّث عن دور اللوحة بوصفها مرآة تعكس ثقافة وتاريخ الزمن الذي ظهرت فيه.
بورتريه الزوجين ارنولفيني للرسّام الهولندي يان فان آيك يحيّر كلّ من يراه. الخبراء والعامّة، على حدّ سواء، يتساءلون عن معنى هذا الجوهرة المؤرّقة من فنّ القرون الوسطى. الزوجان الغامضان في اللوحة يبدو أنهما ينقلان لنا رسالة من وراء القرون. لكن ما هي؟ هل اللوحة احتفال بالزواج أو الحمل؟ محاولة لإحياء ذكرى زوجة شابّة توفّيت أثناء ولادتها لطفلها؟ بيان عن الموضة في ذلك الزمان؟ أم أنها رمز للمكانة أو الوجاهة الاجتماعية للرجل والمرأة الظاهرين فيها؟
الزوجان ارنولفيني كان لهما حياة أخرى حافلة بالأحداث في الخيال. فقد كانا دائما موضوعا لسجالات النقّاد وسخرية رسّامي الكاريكاتير. احد الكتّاب افترض أن الفتاة ذات المظهر الرقيق تخبّئ خلف طيّات ثوبها طفلا. وقال آخر إن اللوحة ربّما تتحدّث عن زواج بالإكراه. وكانت آخر مرّة ظهرت فيها اللوحة في المسلسل المعروف زوجات يائسات.
كارولا هيكس تلخّص هذا التاريخ اللزج للوحة، ولكنها لا تضيف إليه الشيء الكثير. غرضها في الأساس هو أن تتحقّق من مضامين اللوحة، وتدقّق في ديكورها الذي رسمه الفنّان بدقّة فائقة. كما ترصد المؤلّفة مسار اللوحة خلال أربعمائة عام انتقلت خلالها بين عدد من البيوت المالكة الأوروبية ونُهبت كغنيمة حرب، قبل أن تصل أخيرا إلى ملاذها الآمن بالقرب من ساحة الطرف الأغرّ في لندن.
تقول هيكس: الفنّ بحاجة إلى مال. كما انه يتبع السلطة. ولهذا السبب سرعان ما أصبحت لوحة فان آيك لعبة ملكية. في البداية، كانت اللوحة جزءا من تراث عائلة هابسبيرغ. ثم وقعت في يد فيليب الثاني ملك اسبانيا الذي كان يفضّل هيرونيموس بوش على فان آيك.
سليل فيليب، أي كارلوس الثالث، وضع اللوحة في مخزن مهجور. لكنّها انتُشلت في ما بعد، أو على الأصح اشتُريت من قبل أحد جنود ويلينغتون بعد معركة فيتوريا عام 1813.
وبهذه الطريقة جُلبت اللوحة إلى لندن. وقد ابتاعها الناشيونال غاليري، الوليد آنذاك؛ أي عام 1842م، بمبلغ ستّمائة جنيه، وهو سعر زهيد نسبيّا.
ومن هناك ترسّخت شهرة اللوحة بعد أن احتفى بها الرسّامون ما قبل الرافائيليين. ولم يمضِ وقت كثير حتى دخلت اللوحة حيّز الوعي الفنّي الأوسع.
الكاتبة تنقل الحقائق المعروفة كما هي. لكنّها لا تقدّم كشوفا أو تفسيرات جديدة. كما أنها لا تشير إلى السبب الذي جعلها تختار هذه اللوحة بالذات لكتابها، ولا ما الذي تعنيه لها اللوحة وما الذي يجعلها عملا أيقونيّا.
ماذا عن الزوجين ارنولفيني؟ ما هو سرّ تقطيب الرجل الذي تشبه ملامحه ملامح فلاديمير بوتين؟ من هم ضيوف الزوجين الذين نلمح صورهم منعكسة في المرآة على الحائط الخلفي؟ وما سرّ وجود سرير في غرفة الاستقبال؟
من الواضح أن كارولا هيكس تعشق هذه اللوحة كثيرا. ويصحّ اعتبار كتابها هذا رسالة حبّ إلى اللوحة. لكنّ المؤسف أن المؤلّفة رحلت عنّا في سنّ صغيرة نسبيّا وقبل أن تكمل كتابها الذي يبدو انه لم يُطبخ تماما.
وهذا الكتاب، في النهاية، هو تذكير لنا بأننا لا نعيش داخل بيت هذا التاجر، أي ارنولفيني، الذي يشبه عالم بيت الدمية الذي لا يمكن بلوغه أو سبر أسراره.
صحيح أن الكتاب يتضمّن الكثير عن التاريخ اللاحق للوحة. لكنه لا يتحدّث سوى عن القليل جدّا من أسرارها الداخلية. "مترجم".

العظماء والحبّ
يحتاج
الأمر إلى حبّ عظيم وعاطفة متوقّدة كي يصبح المرء كاتبا. وفنّ الكتابة كان
وما يزال موجودا منذ قرون، وكذلك فنّ كتابة رسائل الحبّ.
كتابة الرسائل الحميمة كانت الطريقة الوحيدة التي كان الكتّاب والشعراء والساسة والفلاسفة في الماضي يعبّرون من خلالها عن مشاعرهم العاطفية تجاه النساء اللاتي كانوا يرتبطون معهنّ بأواصر حبّ.
كتابة الرسائل الحميمة كانت الطريقة الوحيدة التي كان الكتّاب والشعراء والساسة والفلاسفة في الماضي يعبّرون من خلالها عن مشاعرهم العاطفية تجاه النساء اللاتي كانوا يرتبطون معهنّ بأواصر حبّ.
في كتابها رسائل حبّ كتبها رجال عظماء تستعرض اورسولا دويل بعض رسائل الحبّ التي كتبها عدد من مشاهير الأدب والسياسة والشعر والفلسفة والفنّ من عصور وثقافات مختلفة..
عندما ظهرت رسائل الحبّ لأوّل مرّة لم يكن هناك هواتف خليوية ولا انترنت. كانت الحياة وقتها مختلفة كثيرا عما هي عليه اليوم. كانت الحروب والمسافات الجغرافية تفصل وتباعد بين الناس. ولم يكن هناك سوى إبداع الكلمة المكتوبة وسيلة للتواصل وتأسيس علاقات إنسانية.
هنري الثامن كان شخصية بارزة في التاريخ البريطاني. وقد عُرف بانشقاقه عن الكنيسة الكاثوليكية وتأسيسه كنيسة انجلترا. وهذه الخطوة لم تكن لها دوافع سياسية بقدر ما كانت متأثرة بحبّه الكبير لـ آن بولين. وهي سيّدة شابّة قابلها عام 1526 عندما كان ما يزال مقترنا بزوجته الأولى كاثرين اوف اراغون. ولزم هنري سبع سنوات كي يلغي زواجه من كاثرين ويتوحّد مع حبّه العظيم لـ آن التي رفضت أن تصبح عشيقة وأقنعته في النهاية بالزواج منها.
بعض الرسائل العاطفية التي كتبها هنري إلى آن حُفظت واستنسخت في أكثر من كتاب. هنري، الذي كان أقوى رجل في بريطانيا في القرن السادس عشر، كان يختم رسائله إلى آن بقوله: هذا من يد خادمك وصديقك هـ. ر".
الحبّ وحده هو الذي روّض الرجل الذي سبق وأن تحدّى سلطة البابا.
جورج غوردون بايرون، المعروف باللورد بايرون، كان احد أكثر الشعراء الرومانسيين تأثيرا ونفوذا. وقد عُرف عنه عشقه للنساء بقدر ما كان يهيم بالكلمات. وبعض أشهر الرسائل الملتهبة التي كتبها نُشرت في أكثر من كتاب. وهي تعطي فكرة عن قاموس الحبّ الذي كان يستخدمه الشاعر البريطاني المشهور في مراسلاته. لم يكن بايرون غريبا على حبّ النساء. فقد تزوّج أوّلا من انابيلا ميلبانك التي هجرته بعد ولادة ابنتهما. ثمّ وقع في حبّ تيريزا غويكولي التي أصبحت رفيقته وملهمته على امتداد ستّ سنوات.
من الصعب أن يفكّر الناس في نابليون، أوّل امبراطور فرنسي، كرجل رومانسي. وقد عُرف عنه توسيعه لحدود فرنسا وتأسيس امبراطورية فرنسية قويّة في القرن التاسع عشر. ومع ذلك فإن الرسائل التي كتبها إلى زوجته الأولى جوزيفين دي بوارنيه تثبت أن هذا السياسي الطموح كان أيضا عاشقا كبيرا.
تزوّج نابليون من جوزيفين عام 1796م. ورغم انه طلقها عام 1810 بعد أن فشلت في إنجاب وريث للعرش، إلا أن الاثنين ظلّت تربطهما علاقة حبّ وثيقة. يقول في إحدى رسائله التي كتبها إليها عام 1795م: صحوت ممتلئا بالأفكار عنك. صورتك والليلة المسكرة التي قضيناها معا بالأمس تركت مشاعري في حالة اضطراب. جوزيفين الحلوة التي لا شبيه لها: أيّ تأثير غريب لك على قلبي"؟
نابليون، قاهر أوربّا، ينهي رسالته معترفا بهزيمته أمام الحبّ.
ليو تولستوي كان ولا شكّ احد أعظم الشخصيات الأدبية في القرن التاسع عشر. كانت حياة الروائي الروسي مليئة بالاضطرابات الانفعالية والإيديولوجية. وفي نهايات عمره اعتنق فلسفة متقشّفة ودعا إلى الامتناع التامّ عن متع الحياة. لكنّ من كتبوا سيرة حياة تولستوي يشيرون إلى أن سنواته المبكّرة كانت مليئة بالعواطف. وقبل زواجه من صوفيا اندرييفنا، كان تولستوي مرتبطا لفترة قصيرة بـ فاليريا ارسينيف، وهي امرأة شابّة كانت تعيش بالقرب من ضيعته. ولسنوات عديدة احتلّت فاليريا عقل تولستوي وقلبه. يقول في إحدى رسائله التي كتبها لها عام 1856م: أحبّ فيك جمالك. لكنّي بدأت للتوّ أحبّ فيك ما هو خالد وثمين، أي قلبك وروحك. لا شيء على هذه الأرض يمكن أن يُمنح دون تعب. حتى الحبّ، هذا الشعور الأكثر جمالا وعفوية".


أصداء الليالي العربية
عندما
تُرجم كتاب ألف ليلة وليلة إلى الانجليزية والفرنسية في بدايات عصر
التنوير الأوربّي، أصبح أفضل الكتب مبيعاً بين المثقّفين الغربيين، في حين
كان ما يزال يُنظر إليه في العالم العربي باعتباره مجرّد مجموعة من
الحكايات الشعبية الرخيصة.
وعلى امتداد تاريخها الطويل، فتنت الليالي العربية الكثير من الكتّاب والفنّانين، من غوستاف فلوبير وأوسكار وايلد وغارسيا ماركيز، إلى نجيب محفوظ وإلياس خوري وريمسكي كورساكوف ودوغلاس فيربانكس وآخرين.
الباحثة والروائية مارينا وورنر تحاول من خلال هذه الدراسة استكشاف قوّة كتاب ألف ليلة وليلة وأثره الكبير والواسع في الثقافة الغربية المعاصرة.
وعلى امتداد تاريخها الطويل، فتنت الليالي العربية الكثير من الكتّاب والفنّانين، من غوستاف فلوبير وأوسكار وايلد وغارسيا ماركيز، إلى نجيب محفوظ وإلياس خوري وريمسكي كورساكوف ودوغلاس فيربانكس وآخرين.
الباحثة والروائية مارينا وورنر تحاول من خلال هذه الدراسة استكشاف قوّة كتاب ألف ليلة وليلة وأثره الكبير والواسع في الثقافة الغربية المعاصرة.

في
بعض الليالي المؤرّقة، وعلى الرغم من المفروشات الوثيرة في غرفة نومه
الملكية أو الأنغام المهدّئة التي يعزفها له موسيقيّوه أو حتى الاهتمام
الرائع الذي تبديه واحدة أو أكثر من محظيّاته الثلاثمائة، لم يكن الخليفة
العبّاسي العظيم هارون الرشيد يستطيع النوم بسهولة.
كان من عادة الخليفة أن يتمشّى بصحبة مرافقه المفضّل مسرور في حدائق القصر أو في أسواق بغداد متنكّرا. وكان أحيانا يستدعي العلماء ليتبادلوا معه أطراف الحديث كعلاج يعينه على أرق الليل. وعندما تفشل كلّ هذه الأساليب، كان يأمر مرافقه بأن يجلب له من دمشق علي بن منصور الذي اشتهر بظرفه كي يخفّف عنه تأثير ساعات الليل الطويلة بحكاياته المسلّية والمؤنسة. وفي النهاية كان ذلك النوع من القصص هو ما يجلب الهدوء إلى قلب الخليفة ويعينه على النوم.
هارون الرشيد المسهّد يظهر كشخصية رئيسية في حكايات ما قبل النوم المعروفة بالليالي العربية أو قصص ألف ليلة وليلة. والباحثة مارينا وورنر تشير في كتابها الجديد والبديع عن ذلك العمل إلى أن ألف ليلة وليلة هو في الأساس كتاب عن القصص التي تُروى في السرير. وهي محقّة تماما في هذا الوصف. فالقصص الليلية تتوسّع في الخيال وتصبح معقولة وواضحة عندما يتوارى الظلام خلف المصابيح. هذه القصص عادة لا تسحرنا في ضوء النهار. لكن عندما تسمع صوت الراوي في الظلمة، يُخيّل إليك أنه آتٍ من أقدم ذكريات الإنسان وأن لديه مقدرة شبحية على تمثيل جميع الأصوات التي تأتي من الماضي السحيق.
حكايات الليالي العربية تتمتّع بخاصية مُعْدية، وهي سهولة انتقالها وترديدها على الألسن. وعندما نسمع حكاية فإننا لا يمكن إلا أن ننقلها لآخرين. هذا الجانب الذي لا يقاوم من السرد القصصي صُوّر بشكل فاتن في الليلة التاسعة والأربعين بعد المائة، حيث يقوم ثعلب بخداع ذئب ويستدرجه للوقوع معه في حفرة. وهناك يتبادل الاثنان الحكايات والحكم والأمثال جيئة وذهابا. أي أنه، حتى في أصعب الحالات والمواقف، هناك حاجة إلى رواية الأساطير والحكايات وتداولها.
ونفس هذا الحافز هو ما يدفع شهرزاد إلى المحافظة على إدهاش السلطان الضَجِر شهريار وتشويقه ليلة بعد ليلة كي تتمكّن من النجاة من المصير المشئوم الذي حلّ بسابقاتها، أي قطع الرأس عند بزوغ الفجر. وتحت تأثير سحر السرد الذي تتمتّع به شهرزاد، ننسى تقريبا حقيقة أنها تغزل حكاياتها تحت التهديد المستمرّ بالموت.
الجانب المتغيّر في الليالي، والمتمثّل في السفر عبر الزمن والتمازج بين ثقافات وحضارات مختلفة، فارسية وعربية وهندية وتركية ويونانية ومصرية وإسلامية ومسيحية، هو من العناصر التي تفتن المؤلّفة وورنر على ما يبدو. وهي ترى فيه مفتاحا فريدا للعمليات التخيّلية التي تحكم رمزية الصور وغرابة وغموض القوّة في الثقافة الحديثة.
وتخصّص المؤلّفة جزءا من كتابها للحديث عن الجنّ "أو الجان" الذين يتصرّفون مثل الآلهة اليونانية، أي بلا منطق وأحيانا تحت تأثير الهوى والنزوات العابرة. كما تتحدّث عن شخصيّة الملك سليمان، سيّد الجنّ في نسختهم الإسلامية، وتورد عنه قصصا لا تختلف كثيرا عن قصص غلغامش وميرلين وبروسبيرو وغاندالف.
وفي هذا الكتاب أيضا، تناقش الكاتبة كيف أن حكايات الليالي العربية تختبر الحدود بين الأشخاص والأشياء. مثلا، تتحدّث عن الرؤوس المقطوعة التي تتكلّم وعن الكتب التي تقتل أصحابها وعن البساط الذي يطير، محاولةً ربط هذه الظواهر السحرية بأشياء في عالمنا الحديث، كالسينما وسلع الحياة اليومية وماركات المصمّمين وغير ذلك من الأدوات والأشياء التي تحدّد سماتنا وشخصيّاتنا.
وورنر فيها، هي أيضا، شيء من شهرزاد، على الرغم من أنها تنسج حكاياتها في ظروف اقلّ خطرا. شهرزاد تسرد الحكايات التي كانت قد قرأتها وحفظتها. وصوتها هو حلقة في سلسلة من الحكايات التي تعود إلى العصور القديمة. ودور الكاتبة هنا هو ترسّم خطى نموذجها.
العديد من القصص التي يتضمّنها كتاب ألف ليلة وليلة تجري في بغداد الأسطورية أو تستمدّ أصولها من مصادر فارسية أقدم. وبعض القصص نجد لها صدى في الحكايات المصرية القديمة من القرن السابع قبل الميلاد. و وورنر متنبّهة إلى هذه الأصداء المبكّرة، لكنها أكثر اهتماما بالتأثير الثقافي والأدبي لـ الليالي العربية على الموسيقيين والفنّانين والكتّاب.
المعروف أن كتاب ألف ليلة وليلة تمّ جمعه لأول مرّة في مصر المملوكية كي يستعين بحكاياته رواة القصص والكتّاب المتجوّلون أو من يُعرفون بـ "الحكواتيين" الذين شكّلوا نقابة خاصة بهم ووجدوا لهم جمهورا بين روّاد المقاهي المصرية والسورية.
ورغم أن الكتاب كان في البداية مثار احتقار الأدباء العرب الذين اعتبروه "زبالة شعبية"، إلا أنه أصبح يتمتّع بشعبية عالمية بعد أن ترجمه إلى الفرنسية الباحث انطوان غالان ونشره في اثني عشر مجلّدا خلال السنوات من 1704 إلى 1717م. وقد طهّر غالان الليالي من الشبق والشذوذ الجنسي، وأضاف إليها حكايات أملاها عليه صديق لبناني، وربمّا اخترع هذا الأخير حكايتين أصبحتا من أشهر حكايات الليالي، هما "علاء الدين والمصباح السحري" و"علي بابا والأربعون حرامي".
ترجمة غالان لـ ألف ليلة وليلة كان تأثيرها ساحقا. فمن فولتير وغوته، إلى هانز كريستيان اندرسن ووليم بيكفورد، وصولا إلى خورخي لويس بورخيس وايتالو كالفينو، أصبح كتاب الليالي العربية ملء السمع والبصر. ولم يكن تأثير الكتاب مقتصرا على الكتّاب والأدباء، وإنما امتدّ ليشمل الملحّنين الموسيقيين "مثل موزارت" والرسّامين والمصمّمين ومخرجي الأفلام السينمائية الذين وقعوا هم أيضا تحت تأثير سحر هذا الكتاب العجيب.
ترجمة غالان لليالي تشكّل أساس التاريخ النصّي لكتاب مارينا وورنر، مثلما كانت تلك الترجمة أصلا للترجمات الأوربّية اللاحقة من الكتاب. وقد ساعدت تلك الترجمة في تشكيل نظرة الأوربّيين إلى الشرق باعتباره مكانا قديما وغير واقعي بعض الشيء، يسكنه الملوك القتلة والفاسقون والنساء الناعمات والمحظيّات الماكرات.
يتألّف كتاب وورنر عن ألف ليلة وليلة من خمسة أقسام وعشرين فصلا. ويتضمّن إعادة سرد لخمس عشرة حكاية من بينها "الصيّاد والجنّي"، و"مدينة النحاس" التي يمكن اعتبارها أعظم قصّة منفردة في الليالي العربية، بالإضافة إلى "علاء الدين" التي توصف بالحكاية اليتيمة لأنه لم يُكتشف نصّها العربي الأصلي إلى اليوم. وبعد كلّ حكاية، تنهمك المؤلّفة في استكشاف سياقاتها ودلالاتها وتشعّباتها الأوسع نطاقا.
والكاتبة بارعة في وصف ما تسمّيه بـ "الشيئية" في القصص، أي الدور المشئوم الذي تلعبه الأدوات والأشياء المنزلية في مصائر البشر.
كما يشتمل الكتاب على فصل مخصّص للحديث عن مخرجة الأفلام الألمانية لوت راينيغر التي صنعت هي وزوجها في عشرينات القرن الماضي فيلم ظلّ صامت عن مغامرات الأمير احمد، وهي إحدى الحكايات التي يرد ذكرها في ألف ليلة وليلة.
وورنر ترى في السحر بكافّة أشكاله مفتاحا لفهم العالم المحتشد في ألف ليلة وليلة. السحر ليس مجرّد فنّ غامض، بل طريقة كاملة للتفكير وللحلم بالمستحيل. وهنا بالذات تكمن قوّته الهائلة في فتح العقل على عوالم جديدة من الإنجاز، بحكم أن الخيال يسبق الواقع دائما. السحر كان دائما مرتبطا بالحكمة، وبفهم قوى الطبيعة، وبالبراعة التي تسمح للإنسان بفعل أشياء ما كان ليحلم بها من قبل. والنموذج الأسمى لهذا التفكير السحري هو كتاب الليالي، ببُسُطِه الطائرة وكنوزه الدفينة وكشوفاته المفاجئة.
غير أن سحر ألف ليلة وليلة ليس مجرّد سحر خيالي، فهو يعتمد على افتراضين غير معلنَين. فطبقا للمعتقدات الإسلامية، فإن عامل السببية أو ربط الأسباب بالنتائج هو من قبيل الأوهام. وما نعتبره سببا، ليس في واقع الأمر سوى من تقدير الله. فهو يعيد خلق العالم في كلّ لحظة. وكلّ ما يحدث هو نتيجة مباشرة لإرادته. والأحداث المحيّرة والرائعة التي تموج بها الليالي العربية هي تصوير دراماتيكي لهذه الفكرة الراديكالية. والعديد من المفكّرين المسلمين يتحدّثون عن ما يسمّونه بالعربية "الألفة"، أي تلك العلاقة الحميمة التي تجمع الأشياء المتباينة بعضها ببعض. هذا النوع من التفكير، الذي يربط اصغر الحشرات على الأرض بأبعد نجمة في السماء، يمكن أن يفسّر العديد من الانتكاسات والتحوّلات المفاجئة في الليالي. وطبقا لهذا التفكير، فإن الأشياء ليس لها جوهر أو ماهيّة ثابتة. وما نراه في الظاهر قد لا يعكس بالضرورة أصل الشيء وحقيقته.
حتى التمييز بين الأرواح والجمادات، بين الأشياء الواعية واللاواعية، يذوب في التفكير السحري لرواة الحكايات، ما يضفي على السرد سيولة وحيوية.
بالنسبة للمفكّرين الغربيين، فإن غرابة الليالي العربية فتحت رؤى جديدة للتحوّل: أحلام الطيران، الكائنات التي تتحدّث، القيمة الافتراضية للنقود، وقوّة الكلمة وقدرتها على إحداث التغيير. حكايات ألف ليلة تخلق صورة شعرية عن المستحيل وعن المعرفة والقوى السرّية. وفوق هذا كلّه، أصبح الغربيون مفتونين بالاعتقاد أن المعرفة الحقيقية تكمن في مكان ما آخر؛ في عالم غامض من الصور والأعاجيب.
كتاب مارينا وورنر عن سحر الليالي العربية هو عمل فريد من نوعه، يمكن أن تقرأه وأنت جالس إلى جوار المدفأة. لكنه بنفس الوقت كتاب موسوعي، ومن السهل أن تفكّر في أن تضيف إليه مواضيع أخرى مثل العمالقة، على سبيل المثال، أو الدراويش أو الواقعية السحرية. "مترجم".
كان من عادة الخليفة أن يتمشّى بصحبة مرافقه المفضّل مسرور في حدائق القصر أو في أسواق بغداد متنكّرا. وكان أحيانا يستدعي العلماء ليتبادلوا معه أطراف الحديث كعلاج يعينه على أرق الليل. وعندما تفشل كلّ هذه الأساليب، كان يأمر مرافقه بأن يجلب له من دمشق علي بن منصور الذي اشتهر بظرفه كي يخفّف عنه تأثير ساعات الليل الطويلة بحكاياته المسلّية والمؤنسة. وفي النهاية كان ذلك النوع من القصص هو ما يجلب الهدوء إلى قلب الخليفة ويعينه على النوم.
هارون الرشيد المسهّد يظهر كشخصية رئيسية في حكايات ما قبل النوم المعروفة بالليالي العربية أو قصص ألف ليلة وليلة. والباحثة مارينا وورنر تشير في كتابها الجديد والبديع عن ذلك العمل إلى أن ألف ليلة وليلة هو في الأساس كتاب عن القصص التي تُروى في السرير. وهي محقّة تماما في هذا الوصف. فالقصص الليلية تتوسّع في الخيال وتصبح معقولة وواضحة عندما يتوارى الظلام خلف المصابيح. هذه القصص عادة لا تسحرنا في ضوء النهار. لكن عندما تسمع صوت الراوي في الظلمة، يُخيّل إليك أنه آتٍ من أقدم ذكريات الإنسان وأن لديه مقدرة شبحية على تمثيل جميع الأصوات التي تأتي من الماضي السحيق.
حكايات الليالي العربية تتمتّع بخاصية مُعْدية، وهي سهولة انتقالها وترديدها على الألسن. وعندما نسمع حكاية فإننا لا يمكن إلا أن ننقلها لآخرين. هذا الجانب الذي لا يقاوم من السرد القصصي صُوّر بشكل فاتن في الليلة التاسعة والأربعين بعد المائة، حيث يقوم ثعلب بخداع ذئب ويستدرجه للوقوع معه في حفرة. وهناك يتبادل الاثنان الحكايات والحكم والأمثال جيئة وذهابا. أي أنه، حتى في أصعب الحالات والمواقف، هناك حاجة إلى رواية الأساطير والحكايات وتداولها.
ونفس هذا الحافز هو ما يدفع شهرزاد إلى المحافظة على إدهاش السلطان الضَجِر شهريار وتشويقه ليلة بعد ليلة كي تتمكّن من النجاة من المصير المشئوم الذي حلّ بسابقاتها، أي قطع الرأس عند بزوغ الفجر. وتحت تأثير سحر السرد الذي تتمتّع به شهرزاد، ننسى تقريبا حقيقة أنها تغزل حكاياتها تحت التهديد المستمرّ بالموت.
الجانب المتغيّر في الليالي، والمتمثّل في السفر عبر الزمن والتمازج بين ثقافات وحضارات مختلفة، فارسية وعربية وهندية وتركية ويونانية ومصرية وإسلامية ومسيحية، هو من العناصر التي تفتن المؤلّفة وورنر على ما يبدو. وهي ترى فيه مفتاحا فريدا للعمليات التخيّلية التي تحكم رمزية الصور وغرابة وغموض القوّة في الثقافة الحديثة.
وتخصّص المؤلّفة جزءا من كتابها للحديث عن الجنّ "أو الجان" الذين يتصرّفون مثل الآلهة اليونانية، أي بلا منطق وأحيانا تحت تأثير الهوى والنزوات العابرة. كما تتحدّث عن شخصيّة الملك سليمان، سيّد الجنّ في نسختهم الإسلامية، وتورد عنه قصصا لا تختلف كثيرا عن قصص غلغامش وميرلين وبروسبيرو وغاندالف.
وفي هذا الكتاب أيضا، تناقش الكاتبة كيف أن حكايات الليالي العربية تختبر الحدود بين الأشخاص والأشياء. مثلا، تتحدّث عن الرؤوس المقطوعة التي تتكلّم وعن الكتب التي تقتل أصحابها وعن البساط الذي يطير، محاولةً ربط هذه الظواهر السحرية بأشياء في عالمنا الحديث، كالسينما وسلع الحياة اليومية وماركات المصمّمين وغير ذلك من الأدوات والأشياء التي تحدّد سماتنا وشخصيّاتنا.
وورنر فيها، هي أيضا، شيء من شهرزاد، على الرغم من أنها تنسج حكاياتها في ظروف اقلّ خطرا. شهرزاد تسرد الحكايات التي كانت قد قرأتها وحفظتها. وصوتها هو حلقة في سلسلة من الحكايات التي تعود إلى العصور القديمة. ودور الكاتبة هنا هو ترسّم خطى نموذجها.
العديد من القصص التي يتضمّنها كتاب ألف ليلة وليلة تجري في بغداد الأسطورية أو تستمدّ أصولها من مصادر فارسية أقدم. وبعض القصص نجد لها صدى في الحكايات المصرية القديمة من القرن السابع قبل الميلاد. و وورنر متنبّهة إلى هذه الأصداء المبكّرة، لكنها أكثر اهتماما بالتأثير الثقافي والأدبي لـ الليالي العربية على الموسيقيين والفنّانين والكتّاب.
المعروف أن كتاب ألف ليلة وليلة تمّ جمعه لأول مرّة في مصر المملوكية كي يستعين بحكاياته رواة القصص والكتّاب المتجوّلون أو من يُعرفون بـ "الحكواتيين" الذين شكّلوا نقابة خاصة بهم ووجدوا لهم جمهورا بين روّاد المقاهي المصرية والسورية.
ورغم أن الكتاب كان في البداية مثار احتقار الأدباء العرب الذين اعتبروه "زبالة شعبية"، إلا أنه أصبح يتمتّع بشعبية عالمية بعد أن ترجمه إلى الفرنسية الباحث انطوان غالان ونشره في اثني عشر مجلّدا خلال السنوات من 1704 إلى 1717م. وقد طهّر غالان الليالي من الشبق والشذوذ الجنسي، وأضاف إليها حكايات أملاها عليه صديق لبناني، وربمّا اخترع هذا الأخير حكايتين أصبحتا من أشهر حكايات الليالي، هما "علاء الدين والمصباح السحري" و"علي بابا والأربعون حرامي".
ترجمة غالان لـ ألف ليلة وليلة كان تأثيرها ساحقا. فمن فولتير وغوته، إلى هانز كريستيان اندرسن ووليم بيكفورد، وصولا إلى خورخي لويس بورخيس وايتالو كالفينو، أصبح كتاب الليالي العربية ملء السمع والبصر. ولم يكن تأثير الكتاب مقتصرا على الكتّاب والأدباء، وإنما امتدّ ليشمل الملحّنين الموسيقيين "مثل موزارت" والرسّامين والمصمّمين ومخرجي الأفلام السينمائية الذين وقعوا هم أيضا تحت تأثير سحر هذا الكتاب العجيب.
ترجمة غالان لليالي تشكّل أساس التاريخ النصّي لكتاب مارينا وورنر، مثلما كانت تلك الترجمة أصلا للترجمات الأوربّية اللاحقة من الكتاب. وقد ساعدت تلك الترجمة في تشكيل نظرة الأوربّيين إلى الشرق باعتباره مكانا قديما وغير واقعي بعض الشيء، يسكنه الملوك القتلة والفاسقون والنساء الناعمات والمحظيّات الماكرات.
يتألّف كتاب وورنر عن ألف ليلة وليلة من خمسة أقسام وعشرين فصلا. ويتضمّن إعادة سرد لخمس عشرة حكاية من بينها "الصيّاد والجنّي"، و"مدينة النحاس" التي يمكن اعتبارها أعظم قصّة منفردة في الليالي العربية، بالإضافة إلى "علاء الدين" التي توصف بالحكاية اليتيمة لأنه لم يُكتشف نصّها العربي الأصلي إلى اليوم. وبعد كلّ حكاية، تنهمك المؤلّفة في استكشاف سياقاتها ودلالاتها وتشعّباتها الأوسع نطاقا.
والكاتبة بارعة في وصف ما تسمّيه بـ "الشيئية" في القصص، أي الدور المشئوم الذي تلعبه الأدوات والأشياء المنزلية في مصائر البشر.
كما يشتمل الكتاب على فصل مخصّص للحديث عن مخرجة الأفلام الألمانية لوت راينيغر التي صنعت هي وزوجها في عشرينات القرن الماضي فيلم ظلّ صامت عن مغامرات الأمير احمد، وهي إحدى الحكايات التي يرد ذكرها في ألف ليلة وليلة.
وورنر ترى في السحر بكافّة أشكاله مفتاحا لفهم العالم المحتشد في ألف ليلة وليلة. السحر ليس مجرّد فنّ غامض، بل طريقة كاملة للتفكير وللحلم بالمستحيل. وهنا بالذات تكمن قوّته الهائلة في فتح العقل على عوالم جديدة من الإنجاز، بحكم أن الخيال يسبق الواقع دائما. السحر كان دائما مرتبطا بالحكمة، وبفهم قوى الطبيعة، وبالبراعة التي تسمح للإنسان بفعل أشياء ما كان ليحلم بها من قبل. والنموذج الأسمى لهذا التفكير السحري هو كتاب الليالي، ببُسُطِه الطائرة وكنوزه الدفينة وكشوفاته المفاجئة.
غير أن سحر ألف ليلة وليلة ليس مجرّد سحر خيالي، فهو يعتمد على افتراضين غير معلنَين. فطبقا للمعتقدات الإسلامية، فإن عامل السببية أو ربط الأسباب بالنتائج هو من قبيل الأوهام. وما نعتبره سببا، ليس في واقع الأمر سوى من تقدير الله. فهو يعيد خلق العالم في كلّ لحظة. وكلّ ما يحدث هو نتيجة مباشرة لإرادته. والأحداث المحيّرة والرائعة التي تموج بها الليالي العربية هي تصوير دراماتيكي لهذه الفكرة الراديكالية. والعديد من المفكّرين المسلمين يتحدّثون عن ما يسمّونه بالعربية "الألفة"، أي تلك العلاقة الحميمة التي تجمع الأشياء المتباينة بعضها ببعض. هذا النوع من التفكير، الذي يربط اصغر الحشرات على الأرض بأبعد نجمة في السماء، يمكن أن يفسّر العديد من الانتكاسات والتحوّلات المفاجئة في الليالي. وطبقا لهذا التفكير، فإن الأشياء ليس لها جوهر أو ماهيّة ثابتة. وما نراه في الظاهر قد لا يعكس بالضرورة أصل الشيء وحقيقته.
حتى التمييز بين الأرواح والجمادات، بين الأشياء الواعية واللاواعية، يذوب في التفكير السحري لرواة الحكايات، ما يضفي على السرد سيولة وحيوية.
بالنسبة للمفكّرين الغربيين، فإن غرابة الليالي العربية فتحت رؤى جديدة للتحوّل: أحلام الطيران، الكائنات التي تتحدّث، القيمة الافتراضية للنقود، وقوّة الكلمة وقدرتها على إحداث التغيير. حكايات ألف ليلة تخلق صورة شعرية عن المستحيل وعن المعرفة والقوى السرّية. وفوق هذا كلّه، أصبح الغربيون مفتونين بالاعتقاد أن المعرفة الحقيقية تكمن في مكان ما آخر؛ في عالم غامض من الصور والأعاجيب.
كتاب مارينا وورنر عن سحر الليالي العربية هو عمل فريد من نوعه، يمكن أن تقرأه وأنت جالس إلى جوار المدفأة. لكنه بنفس الوقت كتاب موسوعي، ومن السهل أن تفكّر في أن تضيف إليه مواضيع أخرى مثل العمالقة، على سبيل المثال، أو الدراويش أو الواقعية السحرية. "مترجم".

ألف لوحة ولوحة
"ألف لوحة ولوحة يجب أن تراها قبل أن تموت" هو عنوان الكتاب الذي أحضرته معي بعد زيارتي الأخيرة إلى لندن. الكتاب يقع في حوالي ألف صفحة. وكلّ صفحة مخصّصة للوحة، مع شرح موجز عن الرسّام والعصر الذي عاش فيه.
المؤلّف ستيفن فارذينغ يعمل أستاذا في جامعة الفنون في لندن. كما انه في الوقت نفسه رسّام. وقد ساعده في اختيار اللوحات وكتابة الشروحات مجموعة من تسعين كاتبا، بينهم أساتذة في الفنّ وموسيقيّون ومصمّمو مواقع اليكترونية.
اللوحات المختارة تغطّي الفترة من عام 1420 قبل الميلاد وحتى العام 2006م. وتضمّ نماذج من الفنّ الفرعوني والإسلامي وفنّ عصر النهضة وصولا إلى فنّ القرن العشرين. وقد روعي في اختيار هذه الأعمال أن تكون ممثّلة لمختلف التيّارات والمدارس الفنّية في الرسم.
ويحوي الكتاب أعمالا لفنّانين مشهورين مثل دافنشي وبيكاسو والبريخت ديورر وكلود مونيه وهيرونيموس بوش وكاندينسكي ورافائيل ودي غويا ومايكل أنجيلو وغوستاف كليمت وروبنز وغيرهم.
والملاحظ أن المؤلّف لم يقدّم لكتابه بشرح عن بدايات الرسم. كما أن الكتاب لا يتطرّق إلى ماهيّة الرسم ولا إلى وظيفته.
والملاحظة الأخرى تتعلّق بالعنوان. فالإشارة إلى الموت في عنوان كتاب يتحدّث عن الفنّ لم تكن موفّقة. لكن ربّما استوحى المؤلف العنوان من اسم كتاب شهير ورائج للكاتبة باتريشيا شولتز بعنوان "ألف مكان يجب أن تراها قبل أن تموت".
المقال المترجم التالي يلقي المزيد من الضوء على مضمون هذا الكتاب. وهو خلاصة لآراء مجموعة من الكتّاب ونقّاد الفن.
المؤلّف ستيفن فارذينغ يعمل أستاذا في جامعة الفنون في لندن. كما انه في الوقت نفسه رسّام. وقد ساعده في اختيار اللوحات وكتابة الشروحات مجموعة من تسعين كاتبا، بينهم أساتذة في الفنّ وموسيقيّون ومصمّمو مواقع اليكترونية.
اللوحات المختارة تغطّي الفترة من عام 1420 قبل الميلاد وحتى العام 2006م. وتضمّ نماذج من الفنّ الفرعوني والإسلامي وفنّ عصر النهضة وصولا إلى فنّ القرن العشرين. وقد روعي في اختيار هذه الأعمال أن تكون ممثّلة لمختلف التيّارات والمدارس الفنّية في الرسم.
ويحوي الكتاب أعمالا لفنّانين مشهورين مثل دافنشي وبيكاسو والبريخت ديورر وكلود مونيه وهيرونيموس بوش وكاندينسكي ورافائيل ودي غويا ومايكل أنجيلو وغوستاف كليمت وروبنز وغيرهم.
والملاحظ أن المؤلّف لم يقدّم لكتابه بشرح عن بدايات الرسم. كما أن الكتاب لا يتطرّق إلى ماهيّة الرسم ولا إلى وظيفته.
والملاحظة الأخرى تتعلّق بالعنوان. فالإشارة إلى الموت في عنوان كتاب يتحدّث عن الفنّ لم تكن موفّقة. لكن ربّما استوحى المؤلف العنوان من اسم كتاب شهير ورائج للكاتبة باتريشيا شولتز بعنوان "ألف مكان يجب أن تراها قبل أن تموت".
المقال المترجم التالي يلقي المزيد من الضوء على مضمون هذا الكتاب. وهو خلاصة لآراء مجموعة من الكتّاب ونقّاد الفن.

قد
يكون من السهل على شخص ما أن يضع قائمة بلوحاته العشر المفضّلة من تاريخ
الفنّ. لكن كيف يمكن لشخص واحد أن يتعاون مع عشرات الكتّاب الآخرين لتأليف
كتاب شامل يتضمّن أهمّ وأشهر ألف لوحة في تاريخ الرسم؟
الشيء المحيّر في هذا الكتاب هو انه خفيف جدّا رغم حجمه. وقارئه المستهدف هو بالتأكيد شخص ما يشبه المرأة التي تظهر على غلافه. وهي تبدو واقفة بينما تعطينا ظهرها وقد ارتدت ثوبا أسود أنيقا وغير مبهرج.
في وقت ما من منتصف القرن التاسع عشر، حدثت انعطافة في تاريخ الرسم. فقد توقّف الرسّامون عن فعل ما كانوا يفعلونه من قبل، وبدءوا يطرحون أسئلة تتناول ماهيّة الرسم وغاياته.
وكان هذا مؤشّرا على التحوّلات الهائلة التي مهّدت لدخول العصر الحديث. كان التغيير الأكبر يتمثّل في تخلّي الرسّامين عن تمثيل الأشياء بطريقة واقعية وإهمالهم للمسائل المتعلّقة بالمنظور.
لكن، لسبب ما، كان الناس ما يزالون يشعرون بالرغبة في الرسم. ولا احد يدري لماذا. ربّما كان السبب هو محاولة الإبقاء على تقليد قديم على أمل أن يعيد إنتاج نفسه في عالم جديد.
وأيّا ما كان الأمر، فإن الرسم تمكّن فعلا من إعادة تصنيع نفسه. واندفع الرسّامون إلى القرن العشرين بأفكار وأدوات جديدة. وبدأ بعضهم يتحدّث عن الرسم من داخل لوحاتهم.
لوحة ماليفيتش المشهورة "ابيض على ابيض" يمكن أخذها كمثال. واللوحة هي عبارة عن مربّع ابيض مرسوم بطريقة مائلة على خلفية من اللون الزهري الخفيف. ويمكن اعتبار اللوحة دراسة في الشكل واللون.
هذه اللوحة لن تعثر لها على اثر في كتاب "ألف لوحة ولوحة يجب أن تراها قبل أن تموت". وستجد عوضا عنها لوحة ماليفيتش الأخرى "الدائرة السوداء" والتي تحاول، هي أيضا، إيصال نفس الفكرة تقريبا.
غير أن لوحة الدائرة السوداء تظهر في إحدى صفحات هذا الكتاب بمواجهة بورتريه الكونتيسة آنا دي نوي للفنّان الاسباني إغناثيو ثولواغا.
من المؤكّد أن لوحة ثولواغا قويّة، وإن بطريقة مختلفة. تتمنّى لو انك عرفت هذه الكونتيسة عن قرب. تتأمّل في ملامح وجهها وتتخيّل كما لو أنها تقول: أحضر لي كأسا من النبيذ أيها الأحمق! النصّ تحت صورة الكونتيسة يتحدّث عن ألوان أغطية السرير الداكنة التي تحاكي لون شعر المرأة الفاحم وفستانها.
وإذا ما حوّلت نظرك إلى الصفحة اليسرى من الكتاب، ستجد بضعة أسطر عن ماليفيتش تشير إلى أن الرسّام اختار للوحته توليفاً تجريديا بالكامل.
الفرق بين هاتين اللوحتين كبير جدّا. السواد النقيّ في لوحة ماليفيتش يهدّد بمحو كل العناصر التمثيلية في لوحة الكونتيسة. هنا تقف الألوان الثريّة للباس التقليدي والمظاهر الأندلسية في مواجهة العالم الصامت للتجريد.
ومن بين الأعمال العظيمة التي يتوقّع القارئ أن يجدها في هذا الكتاب رسومات مايكل انجيلو في سقف كنيسة سيستينا، والغجرية النائمة لـ هنري روسو، والصرخة لـ إدوارد مونك، وظهيرة يوم احد لـ جورج سورا.
لكن هناك مفاجآت أخرى ولوحات غامضة لا يبدو أنها جديرة بأن تُدرج في الكتاب، مثل في الصباح الباكر لـ موريتز لودفيغ فون شوند وأغنية من بعيد لـ فرديناند هولدر.
في هذا الكتاب أيضا، ثمّة لوحات يُفترض أن لا تستطيع رؤيتها قبل الموت لسبب بسيط، هو أنها موجودة ضمن مجموعات فنّية خاصّة.
الشيء المحيّر في هذا الكتاب هو انه خفيف جدّا رغم حجمه. وقارئه المستهدف هو بالتأكيد شخص ما يشبه المرأة التي تظهر على غلافه. وهي تبدو واقفة بينما تعطينا ظهرها وقد ارتدت ثوبا أسود أنيقا وغير مبهرج.
في وقت ما من منتصف القرن التاسع عشر، حدثت انعطافة في تاريخ الرسم. فقد توقّف الرسّامون عن فعل ما كانوا يفعلونه من قبل، وبدءوا يطرحون أسئلة تتناول ماهيّة الرسم وغاياته.
وكان هذا مؤشّرا على التحوّلات الهائلة التي مهّدت لدخول العصر الحديث. كان التغيير الأكبر يتمثّل في تخلّي الرسّامين عن تمثيل الأشياء بطريقة واقعية وإهمالهم للمسائل المتعلّقة بالمنظور.
لكن، لسبب ما، كان الناس ما يزالون يشعرون بالرغبة في الرسم. ولا احد يدري لماذا. ربّما كان السبب هو محاولة الإبقاء على تقليد قديم على أمل أن يعيد إنتاج نفسه في عالم جديد.
وأيّا ما كان الأمر، فإن الرسم تمكّن فعلا من إعادة تصنيع نفسه. واندفع الرسّامون إلى القرن العشرين بأفكار وأدوات جديدة. وبدأ بعضهم يتحدّث عن الرسم من داخل لوحاتهم.
لوحة ماليفيتش المشهورة "ابيض على ابيض" يمكن أخذها كمثال. واللوحة هي عبارة عن مربّع ابيض مرسوم بطريقة مائلة على خلفية من اللون الزهري الخفيف. ويمكن اعتبار اللوحة دراسة في الشكل واللون.
هذه اللوحة لن تعثر لها على اثر في كتاب "ألف لوحة ولوحة يجب أن تراها قبل أن تموت". وستجد عوضا عنها لوحة ماليفيتش الأخرى "الدائرة السوداء" والتي تحاول، هي أيضا، إيصال نفس الفكرة تقريبا.
غير أن لوحة الدائرة السوداء تظهر في إحدى صفحات هذا الكتاب بمواجهة بورتريه الكونتيسة آنا دي نوي للفنّان الاسباني إغناثيو ثولواغا.
من المؤكّد أن لوحة ثولواغا قويّة، وإن بطريقة مختلفة. تتمنّى لو انك عرفت هذه الكونتيسة عن قرب. تتأمّل في ملامح وجهها وتتخيّل كما لو أنها تقول: أحضر لي كأسا من النبيذ أيها الأحمق! النصّ تحت صورة الكونتيسة يتحدّث عن ألوان أغطية السرير الداكنة التي تحاكي لون شعر المرأة الفاحم وفستانها.
وإذا ما حوّلت نظرك إلى الصفحة اليسرى من الكتاب، ستجد بضعة أسطر عن ماليفيتش تشير إلى أن الرسّام اختار للوحته توليفاً تجريديا بالكامل.
الفرق بين هاتين اللوحتين كبير جدّا. السواد النقيّ في لوحة ماليفيتش يهدّد بمحو كل العناصر التمثيلية في لوحة الكونتيسة. هنا تقف الألوان الثريّة للباس التقليدي والمظاهر الأندلسية في مواجهة العالم الصامت للتجريد.
ومن بين الأعمال العظيمة التي يتوقّع القارئ أن يجدها في هذا الكتاب رسومات مايكل انجيلو في سقف كنيسة سيستينا، والغجرية النائمة لـ هنري روسو، والصرخة لـ إدوارد مونك، وظهيرة يوم احد لـ جورج سورا.
لكن هناك مفاجآت أخرى ولوحات غامضة لا يبدو أنها جديرة بأن تُدرج في الكتاب، مثل في الصباح الباكر لـ موريتز لودفيغ فون شوند وأغنية من بعيد لـ فرديناند هولدر.
في هذا الكتاب أيضا، ثمّة لوحات يُفترض أن لا تستطيع رؤيتها قبل الموت لسبب بسيط، هو أنها موجودة ضمن مجموعات فنّية خاصّة.
باخ في بلاط فريدريك الأكبر
احد اغرب اللقاءات في التاريخ هو ذلك الذي جمع بين فريدريك الأكبر ملك بروسيا والموسيقي الألماني العظيم يوهان سيباستيان باخ.
في كتابه "أمسية في قصر العقل: باخ يقابل فريدريك الأكبر في عصر التنوير"، يتحدّث جيمس غينيس عن حياة فريدريك وباخ وكيف أن تحدّيا من الملك دفع الملحّن العجوز لتأليف احد أشهر مؤلّفاته بعنوان هديّة موسيقية، والذي يجمع بين الجمال العقلي والسمعي معا.
غينيس ليس أوّل مؤلّف يكتب عن هذه الحادثة المشهورة. فقد سبق وأن وضع دوغلاس هوفستاتر دراسة عن نقاط الشبه الجمالية التي تجمع هذا العمل المتفرّد لـ باخ مع اكتشافات كيرت غودال الرياضية ورسومات إم سي ايشر. وقد نال ذلك الكتاب عن جدارة جائزة البوليتزر. كما أصبح مثالا على الكيفية التي يُستخدم بها النثر البسيط لإيصال الأفكار العميقة بطرق ليست كاشفة فقط وإنما ممتعة أيضا.
القصّة التي يكتب عنها غينيس هي تذكير بأن بعض قادة الأمم في الماضي كانوا يثمنّون الثقافة الرفيعة. كما كان الفنّانون والمبدعون يكتسبون الشهرة من خلال نبوغهم وعبقريتهم، وليس بسبب تلاعب وسائل الإعلام.
يبدأ الكتاب بسرد سيرة حياة موجزة لشخصيّتي كلّ من باخ وفريدريك. ثم ينتقل للحديث عن ليلة السابع من مايو سنة 1747، عندما كان فريدريك يتفحّص قائمة الزوّار الوافدين إلى قصره في بوتسدام ليجد اسم الموسيقي العجوز من ضمن المدعوّين.
وما يحدث بعد ذلك هو ذروة السرد في هذا الكتاب. فالمؤلّف يحاول أن يقيّم الملك والمؤلّف الموسيقي كنموذجين لاتجاهين متناقضين في التقاليد الجرمانية: فريدريك التوسّعي والمتعطّش للسلطة والبروسي الملحد، وباخ اللوثري المتديّن وذو القلب الرحيم ورجل العائلة وصديق الكنيسة وصاحب الإبداع الذي لا تحدّه حدود.
كان فريدريك رجلا عظيما، ما في ذلك شكّ. على الأقل، قبل أن تتحوّل سلطته إلى شكل من أشكال الاستبداد. وكان دوره مشهودا في رعاية وتشجيع بل وممارسة الفنون.
عندما التقى فريدريك باخ، كان الأخير يقترب من نهاية حياته، وهو سيموت بعد ذلك بعامين. لكن الموسيقي العجوز كان، كما هي عادته دائما، عنيدا وغير مصقول. كان مشهورا كموسيقيّ موهوب. وكانت ارتجالاته الطويلة على لوحة المفاتيح تثير إعجاب أوساط الموسيقى. ولكنه، كمؤلّف موسيقي، كان يُصنّف باعتباره منتميا إلى المدرسة القديمة.
فريدريك، من ناحيته، كان عازفا موهوبا على آلة الفلوت. كان وقتها في سنّ الخامسة والثلاثين وفي ذروة قوّته السياسية. فبعد حربين أدارهما ببراعة ضدّ النمسا، استطاع انتزاع أراض من مقاطعة سيليزيا، ما جعل من بروسيا واحدة من أكثر الأمم الأوروبية قوّة ومنعة.
كان هذا الملك المحارب نموذجا عاليا للحاكم المستنير. كما كان مخطّطا استراتيجيا بارعا في ساحات المعارك. أما في قصره، فقد كان نموذجا للذوق الفنّي الجيّد وتقدير الفنّ والإبداع. كان فريدريك قارئا نهما وواسع الاطلاع، خاصّة في الأدب الفرنسي. ولم يكن يتحدّث اللغة الألمانية سوى بالكاد. كما كان صديقا ومراسلا لـ فولتير.
ومنذ سنوات طفولته الأولى، ورغم رفض والده المخبول الملك وليام الأوّل، كان فريدريك محبّا للموسيقى. وقد ألّف في حياته حوالي أربعمائة قطعة موسيقية لآلة الفلوت ما يزال عدد قليل منها يُعزف إلى اليوم.
منذ البداية، اتخذ وليام الأوّل، والد فريدريك، موقفا معاديا من ابنه. كان الاثنان على خلاف دائم لأنهما كانا مختلفين في كلّ شيء. فريدريك كان عاشقا للكتب وللموسيقى ولكلّ شيء فرنسي. ومنذ صغره كان يُرى بشعره المجعّد وملابسه الحريرية وهو يعزف الفلوت والعود بصحبة أخته الحبيبة ويلهلمينا.
يذكر غينيس أن وليام كان يسعى بلا هوادة لأن يصوغ ابنه على صورته، موظّفا في ذلك درجة من العنف قد تكون فريدة من نوعها في تاريخ الملوك والأمراء.
كان يضرب الصبيّ وهو صغير. واستمرّ في ضربه حتى عندما أصبح رجلا. كان يجلده بالعصا ويسحبه على الأرض ويركله بقدميه. وأحيانا كان يفعل كلّ هذا على مرأى من الحاشية ورجالات البلاط. وبعد إحدى نوبات الضرب، قال الملك العجوز لمن حوله: لو عاملني والدي بمثل هذه المعاملة المهينة، لكنت سارعت إلى تفجير دماغي. لكنّ هذا الرجل لا شرف له".
في كتابه "أمسية في قصر العقل: باخ يقابل فريدريك الأكبر في عصر التنوير"، يتحدّث جيمس غينيس عن حياة فريدريك وباخ وكيف أن تحدّيا من الملك دفع الملحّن العجوز لتأليف احد أشهر مؤلّفاته بعنوان هديّة موسيقية، والذي يجمع بين الجمال العقلي والسمعي معا.
غينيس ليس أوّل مؤلّف يكتب عن هذه الحادثة المشهورة. فقد سبق وأن وضع دوغلاس هوفستاتر دراسة عن نقاط الشبه الجمالية التي تجمع هذا العمل المتفرّد لـ باخ مع اكتشافات كيرت غودال الرياضية ورسومات إم سي ايشر. وقد نال ذلك الكتاب عن جدارة جائزة البوليتزر. كما أصبح مثالا على الكيفية التي يُستخدم بها النثر البسيط لإيصال الأفكار العميقة بطرق ليست كاشفة فقط وإنما ممتعة أيضا.
القصّة التي يكتب عنها غينيس هي تذكير بأن بعض قادة الأمم في الماضي كانوا يثمنّون الثقافة الرفيعة. كما كان الفنّانون والمبدعون يكتسبون الشهرة من خلال نبوغهم وعبقريتهم، وليس بسبب تلاعب وسائل الإعلام.
يبدأ الكتاب بسرد سيرة حياة موجزة لشخصيّتي كلّ من باخ وفريدريك. ثم ينتقل للحديث عن ليلة السابع من مايو سنة 1747، عندما كان فريدريك يتفحّص قائمة الزوّار الوافدين إلى قصره في بوتسدام ليجد اسم الموسيقي العجوز من ضمن المدعوّين.
وما يحدث بعد ذلك هو ذروة السرد في هذا الكتاب. فالمؤلّف يحاول أن يقيّم الملك والمؤلّف الموسيقي كنموذجين لاتجاهين متناقضين في التقاليد الجرمانية: فريدريك التوسّعي والمتعطّش للسلطة والبروسي الملحد، وباخ اللوثري المتديّن وذو القلب الرحيم ورجل العائلة وصديق الكنيسة وصاحب الإبداع الذي لا تحدّه حدود.
كان فريدريك رجلا عظيما، ما في ذلك شكّ. على الأقل، قبل أن تتحوّل سلطته إلى شكل من أشكال الاستبداد. وكان دوره مشهودا في رعاية وتشجيع بل وممارسة الفنون.
عندما التقى فريدريك باخ، كان الأخير يقترب من نهاية حياته، وهو سيموت بعد ذلك بعامين. لكن الموسيقي العجوز كان، كما هي عادته دائما، عنيدا وغير مصقول. كان مشهورا كموسيقيّ موهوب. وكانت ارتجالاته الطويلة على لوحة المفاتيح تثير إعجاب أوساط الموسيقى. ولكنه، كمؤلّف موسيقي، كان يُصنّف باعتباره منتميا إلى المدرسة القديمة.
فريدريك، من ناحيته، كان عازفا موهوبا على آلة الفلوت. كان وقتها في سنّ الخامسة والثلاثين وفي ذروة قوّته السياسية. فبعد حربين أدارهما ببراعة ضدّ النمسا، استطاع انتزاع أراض من مقاطعة سيليزيا، ما جعل من بروسيا واحدة من أكثر الأمم الأوروبية قوّة ومنعة.
كان هذا الملك المحارب نموذجا عاليا للحاكم المستنير. كما كان مخطّطا استراتيجيا بارعا في ساحات المعارك. أما في قصره، فقد كان نموذجا للذوق الفنّي الجيّد وتقدير الفنّ والإبداع. كان فريدريك قارئا نهما وواسع الاطلاع، خاصّة في الأدب الفرنسي. ولم يكن يتحدّث اللغة الألمانية سوى بالكاد. كما كان صديقا ومراسلا لـ فولتير.
ومنذ سنوات طفولته الأولى، ورغم رفض والده المخبول الملك وليام الأوّل، كان فريدريك محبّا للموسيقى. وقد ألّف في حياته حوالي أربعمائة قطعة موسيقية لآلة الفلوت ما يزال عدد قليل منها يُعزف إلى اليوم.
منذ البداية، اتخذ وليام الأوّل، والد فريدريك، موقفا معاديا من ابنه. كان الاثنان على خلاف دائم لأنهما كانا مختلفين في كلّ شيء. فريدريك كان عاشقا للكتب وللموسيقى ولكلّ شيء فرنسي. ومنذ صغره كان يُرى بشعره المجعّد وملابسه الحريرية وهو يعزف الفلوت والعود بصحبة أخته الحبيبة ويلهلمينا.
يذكر غينيس أن وليام كان يسعى بلا هوادة لأن يصوغ ابنه على صورته، موظّفا في ذلك درجة من العنف قد تكون فريدة من نوعها في تاريخ الملوك والأمراء.
كان يضرب الصبيّ وهو صغير. واستمرّ في ضربه حتى عندما أصبح رجلا. كان يجلده بالعصا ويسحبه على الأرض ويركله بقدميه. وأحيانا كان يفعل كلّ هذا على مرأى من الحاشية ورجالات البلاط. وبعد إحدى نوبات الضرب، قال الملك العجوز لمن حوله: لو عاملني والدي بمثل هذه المعاملة المهينة، لكنت سارعت إلى تفجير دماغي. لكنّ هذا الرجل لا شرف له".
أحيانا
كان فريدريك يبدو منصاعا، وأحيانا متحدّيا. وفي سنّ الثامنة عشرة، اتخذ
أهمّ قرار، في محاولة لنيل حرّيته. فقد تآمر مع صديقه هانز فون كات، وهو
ابن عائلة عسكرية بروسية، على أن يهربا إلى انغلترا ويلتمسا حماية جدّه
الملك جورج الأوّل. لكن الخطّة سرعان ما أحبطت. وفي ذروة غضب الأب، فكّر في
إعدام ابنه. لكنه بعد ذلك اكتفى بالحكم عليه بالسجن وعلى رفيقه بالإعدام،
وبأن تُقطع رأس الأخير تحت نافذة زنزانة فريدريك.
ولم يكن غريبا أن فريدريك كان يتمنّى موت والده العجوز. وقد تحقّق له ذلك عام 1740م. وعندما اعتلى هو العرش كانت الرعيّة تتطلّع إلى التغيير.
كان فريدريك الذي التقاه باخ بعد سبع سنوات من صعوده إلى العرش رجلا بلا أوهام. كان جنرالا صلّبت الحروب عوده. لكنه بنفس الوقت كان شخصية تنويرية يهوى الفلسفة ويعشق الموسيقى والآداب والفنون ويعرف أقدار الرجال جيّدا.
في تلك الليلة، دُهش الملك من ارتجالات باخ العجوز. ثم تحدّاه أن يرتجل "فيوكا" من ستّة أجزاء ألّفها فريدريك بنفسه. كان الملك يدرك أن طلبه أشبه ما يكون بالمستحيل. وكان يظنّ أن باخ سيرحل من ساعته محرجا بعد أن يكتشف عجزه عن مجاراة ذلك التحدّي. لكن باخ خيّب ظنون الجميع وارتجل ما كتبه الملك بأعلى درجات الدقّة والإتقان. وقد ابتهج فردريك بالنتيجة. وعندما عاد باخ إلى ليبزيغ شرع في تأليف ثلاثية لآلات الكمان والفلوت والبيانو وأضاف إليها قطعا أخرى قبل أن يرسلها إلى فريدريك كهديّة موسيقية. ولم ينس أن يمهر الهدية ببعض كلمات المجاملة للملك. هدية باخ الموسيقية تتألّف من إحدى وعشرين نوتة. والكثير من النقّاد يعتبرون هذا العمل احد اكبر الانجازات في تاريخ الموسيقى الغربية.
غينيس يتحدّث في كتابه عن شخصيّتي باخ وفريدريك بقدر محسوب من التوازن. لكنه يميل غالبا إلى كفّة باخ، بينما يقاوم إغراء الحديث بإسهاب عن حياة واحد من أهمّ الشخصيات التي حكمت في أوربّا.
كان فريدريك قائدا رائعا. وكان يهتمّ شخصيا وبشكل مباشر بتسيير الشؤون العامّة لبلاده. وكثيرا ما كان يعمل من الساعة الرابعة صباحا وحتى منتصف الليل. وخلال سنوات السلم، أي قبل نشوب حرب السنوات السبع، بنى المدارس والمستشفيات واستصلح الأراضي وأصلح الاقتصاد.
وقد بقي سحر هذا الرجل العظيم عبر القرون. فبعد عشرين عاما على وفاته، قاد نابليون، بعد احتلاله بروسيا، مجموعة من ضبّاطه إلى قبر فريدريك في برلين. وقال مخاطبا جنوده بعد أن أمرهم بأن يرفعوا خوذاتهم احتراما: لو كان هذا الرجل ما يزال على قيد الحياة، لما كنّا هنا".
عائلة باخ كان منها أفراد مارسوا الموسيقى بشكل متواضع إلى ما قبل قرن من ولادة يوهان سيباستيان باخ. وقد ولد في العام 1685 في ايزيناك، وهي بلدة مسوّرة في قلب غابات ثورينغيا الكثيفة. في هذا المكان عاش مارتن لوثر وبشّر بتعاليمه طوال المائة وخمسين عاما التي سبقت ولادة باخ.
كانت ايزيناك بلدة صارمة تخاف الله. وحتّى في أيّام باخ، كانت هذه البلدة ما تزال ترنو بوجهها نحو الخلف باتجاه القرون الوسطى. ومثل الكثير من نواحي أوربّا الأخرى، شهدت البلدة من وقت لآخر تفشّي الطاعون والمجاعات والحروب.
حرب الثلاثين عاما التي بدأت في 1618خلّفت مساحات كبيرة من الأراضي المدمّرة. وعندما اضطرّت الجيوش المتصارعة إلى وقف عملياتها بسبب الإنهاك، كان ثلث عدد السكّان قد ماتوا. ولم يبق سوى بضعة آلاف من الإمارات والدوقيات الصغيرة المفلسة تركتها اتفاقية ويستفاليا تحت رحمة القوى الأوربية العظمى التي دفعتها في نهاية الأمر للدخول في معاهدات سلام مختلّة ويائسة.
في مثل تلك الظروف، لم يكن مستغربا أن يلوذ الناس بالدين. والد باخ، يوهان امبروزيوس، كان لوثريّاً متشدّداً، في حين كانت والدته تتبع طائفة متطرّفة من البروتستانت المكروهين من أتباع لوثر وكالفين.
وطوال حياته، كان يوهان سيباستيان متمسّكا بدين والده، وبدرجة اقلّ بدين والدته. وكرّس موسيقاه لتمجيد الله الأعظم. لكنه رغم ذلك لم يكن متوجّها بكليّته نحو الحياة الأخرى. كان يستمتع بالسرير، وقد أنجب عددا كبيرا من الأطفال. كما كان يجد بغيته في الطعام والنبيذ الجيّدين.
ويقال انه كان شخصا غضوبا وعنيدا. كما كان مقاتلا شرسا عن مكانته وسمعته. وقد ساعده في ذلك صلاته الوثيقة بالأمراء ورجال الكنيسة والدولة. كان باخ من ذلك الطراز النادر من الفنّانين الذين لا يفقدون ثقتهم بأنفسهم حتى عندما يواجهون لامبالاة الجمهور وعداوة أقرانهم من أصحاب المهنة.
فريدريك، من جهته، كان نقيضا لـ باخ من عدّة نواحٍ. القاسم المشترك بينهما كان عظمتهما، بالإضافة إلى حبّهما الكبير للموسيقى.
"أمسية في قصر العقل" كتاب مدهش وجادّ وعاطفي في احتفائه بموسيقي استثنائي وعظيم وبقائد يعتبره المؤرّخون احد أكثر الحكّام فتنةً في التاريخ الأوربّي كلّه. "مترجم".

ولم يكن غريبا أن فريدريك كان يتمنّى موت والده العجوز. وقد تحقّق له ذلك عام 1740م. وعندما اعتلى هو العرش كانت الرعيّة تتطلّع إلى التغيير.
كان فريدريك الذي التقاه باخ بعد سبع سنوات من صعوده إلى العرش رجلا بلا أوهام. كان جنرالا صلّبت الحروب عوده. لكنه بنفس الوقت كان شخصية تنويرية يهوى الفلسفة ويعشق الموسيقى والآداب والفنون ويعرف أقدار الرجال جيّدا.
في تلك الليلة، دُهش الملك من ارتجالات باخ العجوز. ثم تحدّاه أن يرتجل "فيوكا" من ستّة أجزاء ألّفها فريدريك بنفسه. كان الملك يدرك أن طلبه أشبه ما يكون بالمستحيل. وكان يظنّ أن باخ سيرحل من ساعته محرجا بعد أن يكتشف عجزه عن مجاراة ذلك التحدّي. لكن باخ خيّب ظنون الجميع وارتجل ما كتبه الملك بأعلى درجات الدقّة والإتقان. وقد ابتهج فردريك بالنتيجة. وعندما عاد باخ إلى ليبزيغ شرع في تأليف ثلاثية لآلات الكمان والفلوت والبيانو وأضاف إليها قطعا أخرى قبل أن يرسلها إلى فريدريك كهديّة موسيقية. ولم ينس أن يمهر الهدية ببعض كلمات المجاملة للملك. هدية باخ الموسيقية تتألّف من إحدى وعشرين نوتة. والكثير من النقّاد يعتبرون هذا العمل احد اكبر الانجازات في تاريخ الموسيقى الغربية.
غينيس يتحدّث في كتابه عن شخصيّتي باخ وفريدريك بقدر محسوب من التوازن. لكنه يميل غالبا إلى كفّة باخ، بينما يقاوم إغراء الحديث بإسهاب عن حياة واحد من أهمّ الشخصيات التي حكمت في أوربّا.
كان فريدريك قائدا رائعا. وكان يهتمّ شخصيا وبشكل مباشر بتسيير الشؤون العامّة لبلاده. وكثيرا ما كان يعمل من الساعة الرابعة صباحا وحتى منتصف الليل. وخلال سنوات السلم، أي قبل نشوب حرب السنوات السبع، بنى المدارس والمستشفيات واستصلح الأراضي وأصلح الاقتصاد.
وقد بقي سحر هذا الرجل العظيم عبر القرون. فبعد عشرين عاما على وفاته، قاد نابليون، بعد احتلاله بروسيا، مجموعة من ضبّاطه إلى قبر فريدريك في برلين. وقال مخاطبا جنوده بعد أن أمرهم بأن يرفعوا خوذاتهم احتراما: لو كان هذا الرجل ما يزال على قيد الحياة، لما كنّا هنا".
عائلة باخ كان منها أفراد مارسوا الموسيقى بشكل متواضع إلى ما قبل قرن من ولادة يوهان سيباستيان باخ. وقد ولد في العام 1685 في ايزيناك، وهي بلدة مسوّرة في قلب غابات ثورينغيا الكثيفة. في هذا المكان عاش مارتن لوثر وبشّر بتعاليمه طوال المائة وخمسين عاما التي سبقت ولادة باخ.
كانت ايزيناك بلدة صارمة تخاف الله. وحتّى في أيّام باخ، كانت هذه البلدة ما تزال ترنو بوجهها نحو الخلف باتجاه القرون الوسطى. ومثل الكثير من نواحي أوربّا الأخرى، شهدت البلدة من وقت لآخر تفشّي الطاعون والمجاعات والحروب.
حرب الثلاثين عاما التي بدأت في 1618خلّفت مساحات كبيرة من الأراضي المدمّرة. وعندما اضطرّت الجيوش المتصارعة إلى وقف عملياتها بسبب الإنهاك، كان ثلث عدد السكّان قد ماتوا. ولم يبق سوى بضعة آلاف من الإمارات والدوقيات الصغيرة المفلسة تركتها اتفاقية ويستفاليا تحت رحمة القوى الأوربية العظمى التي دفعتها في نهاية الأمر للدخول في معاهدات سلام مختلّة ويائسة.
في مثل تلك الظروف، لم يكن مستغربا أن يلوذ الناس بالدين. والد باخ، يوهان امبروزيوس، كان لوثريّاً متشدّداً، في حين كانت والدته تتبع طائفة متطرّفة من البروتستانت المكروهين من أتباع لوثر وكالفين.
وطوال حياته، كان يوهان سيباستيان متمسّكا بدين والده، وبدرجة اقلّ بدين والدته. وكرّس موسيقاه لتمجيد الله الأعظم. لكنه رغم ذلك لم يكن متوجّها بكليّته نحو الحياة الأخرى. كان يستمتع بالسرير، وقد أنجب عددا كبيرا من الأطفال. كما كان يجد بغيته في الطعام والنبيذ الجيّدين.
ويقال انه كان شخصا غضوبا وعنيدا. كما كان مقاتلا شرسا عن مكانته وسمعته. وقد ساعده في ذلك صلاته الوثيقة بالأمراء ورجال الكنيسة والدولة. كان باخ من ذلك الطراز النادر من الفنّانين الذين لا يفقدون ثقتهم بأنفسهم حتى عندما يواجهون لامبالاة الجمهور وعداوة أقرانهم من أصحاب المهنة.
فريدريك، من جهته، كان نقيضا لـ باخ من عدّة نواحٍ. القاسم المشترك بينهما كان عظمتهما، بالإضافة إلى حبّهما الكبير للموسيقى.
"أمسية في قصر العقل" كتاب مدهش وجادّ وعاطفي في احتفائه بموسيقي استثنائي وعظيم وبقائد يعتبره المؤرّخون احد أكثر الحكّام فتنةً في التاريخ الأوربّي كلّه. "مترجم".
رحلة إلى التبت
كولين
ثوبرون هو واحد من أكثر كتّاب السفر والرحلات موهبة واحتراماً في هذا
العصر. وقبل سنوات، فاز بجائزة توماس كوك لكتب الرحلات عن مؤلّفه "ما وراء
السور: رحلة عبر الصين".
كتابه الأخير "إلى جبل في التبت" يعتبر تحفة حقيقية. وكعادته في كتبه السابقة، يعرض المؤلّف أفكاره ومشاهداته بلغة رشيقة وشاعرية. ولكن بالإضافة إلى هذا، يضيف ثوبرون إلى كتابه الجديد مسحة إنسانية حزينة لأنه يرصد من خلال رحلته قصّة أفراد عائلته الذين قضوا جميعا.
تبدأ الرحلة في جناح بالمستشفى الذي شهد وفاة آخر فرد من أفراد أسرته. فقد توفّيت والدته مؤخّرا فقط. وقبل ذلك، رحلت شقيقته ذات الواحد والعشرين عاما. والكتاب بمعنى ما، هو محاولة لإحياء ذكراهما.
الوجهة النهائية لرحلة كولين ثوبرون هذه المرّة هي جبل يُدعى كايلاش يقع في مملكة التبت. هناك يقوم احد أقدس الجبال في العالم حسب اعتقاد ما يقرب من خُمس سكّان الكرة الأرضية.
لكن الجبل يقع في منطقة قاسية ووعرة يسكنها أناس فقراء ولم يسبق سوى للقليل من الغربيين أن بلغوا ذلك المكان المهيب.
و ثوبرون يصطحب معه في رحلته دليلا وطبّاخا وحارساً.
هذه الرحلة يمكن اعتبارها نوعا من الحجّ المقدّس يتأمّل الكاتب خلاله معنى فقدان والديه وأهله. لكنّه في نفس الوقت يكتب عن الأرواح الطيّبة وكرم الناس العاديين الذين التقاهم على طول الطريق، فضلا عن جمال المناظر الطبيعية في بلاد التبت.
الكتاب يتضمّن أيضا كلّ الأشياء التي تتوقّعها من كاتب مثل كولين ثوبرون. فهو مثلا يورد أوصافا رائعة لكلّ ما رآه وتعلّمه من دروس أثناء ترحاله. وهناك أيضا الملاحظات الجميلة عن حياة الناس الذين يعيشون في الأماكن النائية التي زارها.
كايلاش مكان يصعب بلوغه. والأكثر صعوبة أن تحصل على إذن لزيارته. والجبل يتمتّع بقدسية كبيرة عند الهندوس والبوذيين وأتباع ديانات التبت القديمة. كما انه المكان الذي تنبع منه الأنهار الأربعة العظيمة في الهند.
منظر الجبل جميل بشكل مذهل. ولكنه محاط بالأخطار. فهو مرتفع جدّا كما أن طقسه مثلج طوال أيّام السنة، يضاف إلى ذلك كثرة الانهيارات الجليدية على طول الطريق المؤدّي إليه.
وكايلاش مسجّى بقصص البشر المقدّسين والآلهة المتعدّدة. كما تتوزّع حول قمّته المعابد القديمة التي دُمّرت أثناء الثورة الثقافية قبل أن يعيد بناءها المؤمنون الفقراء.
ومثل طقوس الحجّ الأخرى، يجري الطواف حول قمّة الجبل. لكن الهواء هناك جافّ ومتجمّد. وثوبرون يجد أن هذه التجربة تفجّر رؤى وأفكارا غير متوقّعة. وقد رأى في المكان أشكالا لشياطين وبصمات على الحجارة تركها أشخاص مقدّسون.
من فوق أعلى قمم كايلاش، تبدو الهاوية في الأسفل سحيقة ومخيفة. والمنظر يذكّر المؤلف باليوم الذي توفّيت فيه شقيقته بينما كانت تتزلّج في أحد الجبال. "سألت والدتي بعض الغرباء أن يصلّوا من اجلنا. وعندئذ فقط أحسست بالخوف. أمّي لم تكن تحبّ أن تزعج أحدا".
أثناء رحلته يشرح ثوبرون للقارئ كيف أن الآلهة العديدة هناك تساعد الناس في هذه الأرض الصعبة المراس على التعامل في مواجهة عالم لا يمكن التكهّن به. وقد وجد بعض العزاء في حديث راهب ذكّره بحكمة بوذية قديمة تقول: "في النهاية، ينبغي على الإنسان أن يرحل ويترك خلفه كلّ من يحبّ".
ويستخدم المؤلّف الأفكار البوذية كأساس لكتابة تأمّلاته عن دورة الحياة وعن معنى المعاناة. كما انه يحاول استحضار ذكريات قديمة تأتي بصعوبة ومن ثم يحوّلها إلى أفكار هادئة وذات مغزى.
أثناء الرحلة، يصعد ثوبرون إلى ماناساروفار، وهي عبارة عن جنّة أرضية تقع على مساحة مائتي ميل مربّع من الماء وترتفع عن سطح البحر بأكثر من خمسة عشر ألف قدم. ماناساروفار ما تزال إحدى أقدس البحيرات في العالم. هنا طهّرت والدة غوتاما بوذا نفسها قبل أن تستقبله في رحمها.
يقول ثوبرون متحدّثا عن هذا المكان بأسلوب اقرب ما يكون إلى قصيدة منثورة: تقع البحيرة خلف اكبر حاجز جبلي على الأرض. وهي محاطة بهضاب من النقاء البارد. ومياهها تفيض في الوقت المناسب. هذا المكان ممنوع على الغرباء دخوله لأسباب غامضة. وله صدى يشبه ذاكرة شيء ضائع، حياة ما من زمن أكثر نقاءً. وربّما يخبّئ بداخله مفاتيح إلى عالم ما بعد الموت".
ثوبرون يشقّ طريقه إلى ماناساروفار صعودا مع مئات الحجّاج إلى هذه المنطقة المشحونة بالقداسة كي يجدوا السلام مع موتاهم ويتطّهروا من ذنوبهم في هذه الدنيا وفي الحياة الآخرة.
وفي أعلى الدير، يتداخل الرهبان مع بعضهم "مثل طيور السنونو التي تنتظم في أسراب صغيرة، بينما تعكس المصابيح خطوطا من الضوء على ضفّتي الجبل المتجمّد".
الرحلة إلى كايلاش قصيرة إلى حدّ ما. لكنها مليئة بالمخاطر. الجانب النيبالي من الحدود، وهو معقل سابق للمتمرّدين الماويّين، لا يمكن بلوغه إلا على متن طائرة صغيرة. ومن هناك تبدأ رحلة على الأقدام فوق قمم صخرية شديدة الانحدار لدرجة أن خطوة واحدة غير محسوبة قد تنتهي بالمسافر إلى السقوط في نهر متجمّد في الأسفل.
الجانب الصيني، وهو منطقة عسكرية مليئة بالجنود وكاميرات التجسّس، ما يزال يحمل بعضا من آثار جنون الثورة الثقافية، عندما دُمّرت الآلاف من الأديرة البوذية من قبل الحرس الأحمر.
السلطات الصينية قلقة. فالذكرى الخمسون لهروب الدالاي لاما إلى المنفى كانت قد مرّت للتو. وذكريات أحداث الشغب التبتية قبل دورة الألعاب الاولمبية في بيجين كانت ما تزال حيّة في الأذهان.
بعض الذين حاولوا الوصول إلى هذا الجبل ماتوا في الطريق. والبعض الآخر عادوا أدراجهم قبل أن يبلغوه. وعلى طول الطريق، تبدو مدرّجات "الدفن السماوي" وقد سوّيت بالصخور وتناثرت فيها قطع الملابس والعظام البشرية وريش النسور التي تلتقط الجثث وتنهشها نظيفةً.
يتضمّن الكتاب أيضا وصفا للأضرحة البوذية الغامضة والطقوس الدينية المختلفة مع إشارات متكرّرة عن مكانة ارض التبت في المخيّلة الغربية وفي التاريخ والأساطير. كما يتحدّث المؤلّف عن نباتات وحيوانات، بعضها يشير إلى طبيعة بكر وفاتنة والبعض الآخر يأتي على ذكرها كما لو أنها من كوكب بعيد.
ثم يتحدّث ثوبرون عن المستكشفين والمغامرين الذين سبقوه إلى كايلاش، ومنهم علماء نبات بريطانيون وجواسيس هنود ومبشرّون يسوعيّون، بالإضافة إلى ارستقراطي اسكتلندي تجوّل ذات يوم في مياه البحيرة المقدّسة على متن زورق مطّاطي. وهي جريمة كلّفت الحاكم المحلّي آنذاك رأسه.
"إلى جبل في التبت" كتاب أنيق ورائع. لكنه لا يوفّر خلاصاً. بل يصحّ أن يوصف بأنه مرثية لكلّ ما يجعل منّا بشرا. ولا يمكنك أن تطلب من كتاب أكثر من هذا. "مترجم".
موضوع ذو صلة: رحلة على طريق الحرير
كتابه الأخير "إلى جبل في التبت" يعتبر تحفة حقيقية. وكعادته في كتبه السابقة، يعرض المؤلّف أفكاره ومشاهداته بلغة رشيقة وشاعرية. ولكن بالإضافة إلى هذا، يضيف ثوبرون إلى كتابه الجديد مسحة إنسانية حزينة لأنه يرصد من خلال رحلته قصّة أفراد عائلته الذين قضوا جميعا.
تبدأ الرحلة في جناح بالمستشفى الذي شهد وفاة آخر فرد من أفراد أسرته. فقد توفّيت والدته مؤخّرا فقط. وقبل ذلك، رحلت شقيقته ذات الواحد والعشرين عاما. والكتاب بمعنى ما، هو محاولة لإحياء ذكراهما.
الوجهة النهائية لرحلة كولين ثوبرون هذه المرّة هي جبل يُدعى كايلاش يقع في مملكة التبت. هناك يقوم احد أقدس الجبال في العالم حسب اعتقاد ما يقرب من خُمس سكّان الكرة الأرضية.
لكن الجبل يقع في منطقة قاسية ووعرة يسكنها أناس فقراء ولم يسبق سوى للقليل من الغربيين أن بلغوا ذلك المكان المهيب.
و ثوبرون يصطحب معه في رحلته دليلا وطبّاخا وحارساً.
هذه الرحلة يمكن اعتبارها نوعا من الحجّ المقدّس يتأمّل الكاتب خلاله معنى فقدان والديه وأهله. لكنّه في نفس الوقت يكتب عن الأرواح الطيّبة وكرم الناس العاديين الذين التقاهم على طول الطريق، فضلا عن جمال المناظر الطبيعية في بلاد التبت.
الكتاب يتضمّن أيضا كلّ الأشياء التي تتوقّعها من كاتب مثل كولين ثوبرون. فهو مثلا يورد أوصافا رائعة لكلّ ما رآه وتعلّمه من دروس أثناء ترحاله. وهناك أيضا الملاحظات الجميلة عن حياة الناس الذين يعيشون في الأماكن النائية التي زارها.
كايلاش مكان يصعب بلوغه. والأكثر صعوبة أن تحصل على إذن لزيارته. والجبل يتمتّع بقدسية كبيرة عند الهندوس والبوذيين وأتباع ديانات التبت القديمة. كما انه المكان الذي تنبع منه الأنهار الأربعة العظيمة في الهند.
منظر الجبل جميل بشكل مذهل. ولكنه محاط بالأخطار. فهو مرتفع جدّا كما أن طقسه مثلج طوال أيّام السنة، يضاف إلى ذلك كثرة الانهيارات الجليدية على طول الطريق المؤدّي إليه.
وكايلاش مسجّى بقصص البشر المقدّسين والآلهة المتعدّدة. كما تتوزّع حول قمّته المعابد القديمة التي دُمّرت أثناء الثورة الثقافية قبل أن يعيد بناءها المؤمنون الفقراء.
ومثل طقوس الحجّ الأخرى، يجري الطواف حول قمّة الجبل. لكن الهواء هناك جافّ ومتجمّد. وثوبرون يجد أن هذه التجربة تفجّر رؤى وأفكارا غير متوقّعة. وقد رأى في المكان أشكالا لشياطين وبصمات على الحجارة تركها أشخاص مقدّسون.
من فوق أعلى قمم كايلاش، تبدو الهاوية في الأسفل سحيقة ومخيفة. والمنظر يذكّر المؤلف باليوم الذي توفّيت فيه شقيقته بينما كانت تتزلّج في أحد الجبال. "سألت والدتي بعض الغرباء أن يصلّوا من اجلنا. وعندئذ فقط أحسست بالخوف. أمّي لم تكن تحبّ أن تزعج أحدا".
أثناء رحلته يشرح ثوبرون للقارئ كيف أن الآلهة العديدة هناك تساعد الناس في هذه الأرض الصعبة المراس على التعامل في مواجهة عالم لا يمكن التكهّن به. وقد وجد بعض العزاء في حديث راهب ذكّره بحكمة بوذية قديمة تقول: "في النهاية، ينبغي على الإنسان أن يرحل ويترك خلفه كلّ من يحبّ".
ويستخدم المؤلّف الأفكار البوذية كأساس لكتابة تأمّلاته عن دورة الحياة وعن معنى المعاناة. كما انه يحاول استحضار ذكريات قديمة تأتي بصعوبة ومن ثم يحوّلها إلى أفكار هادئة وذات مغزى.
أثناء الرحلة، يصعد ثوبرون إلى ماناساروفار، وهي عبارة عن جنّة أرضية تقع على مساحة مائتي ميل مربّع من الماء وترتفع عن سطح البحر بأكثر من خمسة عشر ألف قدم. ماناساروفار ما تزال إحدى أقدس البحيرات في العالم. هنا طهّرت والدة غوتاما بوذا نفسها قبل أن تستقبله في رحمها.
يقول ثوبرون متحدّثا عن هذا المكان بأسلوب اقرب ما يكون إلى قصيدة منثورة: تقع البحيرة خلف اكبر حاجز جبلي على الأرض. وهي محاطة بهضاب من النقاء البارد. ومياهها تفيض في الوقت المناسب. هذا المكان ممنوع على الغرباء دخوله لأسباب غامضة. وله صدى يشبه ذاكرة شيء ضائع، حياة ما من زمن أكثر نقاءً. وربّما يخبّئ بداخله مفاتيح إلى عالم ما بعد الموت".
ثوبرون يشقّ طريقه إلى ماناساروفار صعودا مع مئات الحجّاج إلى هذه المنطقة المشحونة بالقداسة كي يجدوا السلام مع موتاهم ويتطّهروا من ذنوبهم في هذه الدنيا وفي الحياة الآخرة.
وفي أعلى الدير، يتداخل الرهبان مع بعضهم "مثل طيور السنونو التي تنتظم في أسراب صغيرة، بينما تعكس المصابيح خطوطا من الضوء على ضفّتي الجبل المتجمّد".
الرحلة إلى كايلاش قصيرة إلى حدّ ما. لكنها مليئة بالمخاطر. الجانب النيبالي من الحدود، وهو معقل سابق للمتمرّدين الماويّين، لا يمكن بلوغه إلا على متن طائرة صغيرة. ومن هناك تبدأ رحلة على الأقدام فوق قمم صخرية شديدة الانحدار لدرجة أن خطوة واحدة غير محسوبة قد تنتهي بالمسافر إلى السقوط في نهر متجمّد في الأسفل.
الجانب الصيني، وهو منطقة عسكرية مليئة بالجنود وكاميرات التجسّس، ما يزال يحمل بعضا من آثار جنون الثورة الثقافية، عندما دُمّرت الآلاف من الأديرة البوذية من قبل الحرس الأحمر.
السلطات الصينية قلقة. فالذكرى الخمسون لهروب الدالاي لاما إلى المنفى كانت قد مرّت للتو. وذكريات أحداث الشغب التبتية قبل دورة الألعاب الاولمبية في بيجين كانت ما تزال حيّة في الأذهان.
بعض الذين حاولوا الوصول إلى هذا الجبل ماتوا في الطريق. والبعض الآخر عادوا أدراجهم قبل أن يبلغوه. وعلى طول الطريق، تبدو مدرّجات "الدفن السماوي" وقد سوّيت بالصخور وتناثرت فيها قطع الملابس والعظام البشرية وريش النسور التي تلتقط الجثث وتنهشها نظيفةً.
يتضمّن الكتاب أيضا وصفا للأضرحة البوذية الغامضة والطقوس الدينية المختلفة مع إشارات متكرّرة عن مكانة ارض التبت في المخيّلة الغربية وفي التاريخ والأساطير. كما يتحدّث المؤلّف عن نباتات وحيوانات، بعضها يشير إلى طبيعة بكر وفاتنة والبعض الآخر يأتي على ذكرها كما لو أنها من كوكب بعيد.
ثم يتحدّث ثوبرون عن المستكشفين والمغامرين الذين سبقوه إلى كايلاش، ومنهم علماء نبات بريطانيون وجواسيس هنود ومبشرّون يسوعيّون، بالإضافة إلى ارستقراطي اسكتلندي تجوّل ذات يوم في مياه البحيرة المقدّسة على متن زورق مطّاطي. وهي جريمة كلّفت الحاكم المحلّي آنذاك رأسه.
"إلى جبل في التبت" كتاب أنيق ورائع. لكنه لا يوفّر خلاصاً. بل يصحّ أن يوصف بأنه مرثية لكلّ ما يجعل منّا بشرا. ولا يمكنك أن تطلب من كتاب أكثر من هذا. "مترجم".
موضوع ذو صلة: رحلة على طريق الحرير

أسطورة كوكو شانيل
الحياة
المثمرة والمفعمة بالنشاط لـ كوكو "غابريال" شانيل ونجاحها المبكّر
كمصمّمة أزياء في باريس وفّرا لها كتابا اسود صغيرا يحسدها عليه الكثيرون
ويزدحم بأسماء العديد من الأثرياء والمشاهير.
بعض هؤلاء كانوا مجرّد زبائن. لكن العديد منهم كانوا عشّاقا والقليل منهم كانوا متزوّجين. وقد ربطتها أحوال عشق مع عدد من الرجال اللامعين. ومن بين هؤلاء يبرز اسمان مميّزان: الأوّل دوق ويستمنستر هوغ غروسفينور الذي فُتنت به ذات مرّة وتزوّجته. والثاني: رئيس وزراء بريطانيا الأسبق ونستون تشيرشل الذي يعود إليه الفضل في انه أنقذ حياتها من الأخطار والمشاكل أثناء الحرب العالمية الثانية.
خلال الحرب، وكانت شانيل وقتها في أواخر الخمسينات من عمرها، كانت تربطها علاقة برجل كان على صلة بالنازيين. كان ذلك الرجل، واسمه هانز غونتر، يصغرها بثلاثة عشر عاما. وكان يعمل بأوامر مباشرة من وزارة الدعاية النازية ويستخدم من وظيفته كملحق صحفي في باريس غطاءً لأنشطته الجاسوسية. وقد راجت في ذلك الحين نظرية تقول انه كان عميلا مزدوجا وانه كان يعمل سرّا ضدّ النازيين.
في باريس، بعد تحريرها من الاحتلال النازي، استُدعيت شانيل من قبل السلطات الفرنسية للإجابة على بعض الأسئلة. لكن لم يُعرف أبدا أيّ الرجلين، غروسفينور أو تشيرشل، تدخّل لمصلحتها. وقد عادت بسرعة إلى بيتها بعد أن تجنّبت العقوبة المخزية التي كانت تُطبّق بحقّ المتعاملين مع العدوّ الذين كانت تُحلق رؤوسهم ويُعرَضون عراة في شوارع باريس.
في هذا الكتاب تتحدّث الكاتبة البريطانية جيستين بيكاردي عن الفرضية التي تقول إن تشرشل تدخّل بطريقة أو بأخرى من اجلها. وتعيد المؤلّفة إلى الأذهان ما أشيع في حينه من محاولات بُذلت للحيلولة دون الكشف عن الاتصالات الكريهة بين بعض الزعماء النازيين من جهة وبين كلّ من دوق ودوقة وندسور من جهة أخرى".
وعندما سُئلت شانيل في ما بعد عمّا إذا كانت متورّطة مع الألماني أجابت: إن امرأة في مثل سنّي لا يُتوقّع منها أن تنظر إلى جواز سفره إذا كانت لديها فرصة لأن تحبّه".
كانت غابريال شانيل ثمرة لزواج غير شرعي. وقد ولدت في العام 1883 في ملجأ في الريف الفرنسي. وبعد موت أمّها، وهي ما تزال طفلة، تخلّى عنها والدها وأودعها في ملجأ للأيتام. وبعض ذكريات الملجأ، بطبيعته النقيّة والمتقشّفة، ظهرت في ما بعد في تفاصيل منزلها الأنيق على الريفييرا الفرنسية. كما اقتبست بعض عادات وملابس الراهبات في تصاميمها، خاصّة الأصفاد والياقات واستخدام ألوان أحادية مثل الأسود والكريمي.
كانت لدى كوكو شانيل موهبة تلوين الأجزاء غير السعيدة وغير المهمّة من حياتها المبكّرة. وعندما كانت في الثامنة عشرة من عمرها غادرت ملجأ الراهبات وبدأت تعمل كمغنّية في احد الأندية الليلية. ثم تعرّفت إلى الانجليزي بوي كابيل الذي أصبح عشيقها وملهمها. وقد دأبت على تقطيع ملابسه ومن ثم إعادة تصميمها وإضفاء طابع "اندروجيني" عليها بحيث تصلح للرجال والنساء معا.
وبفضل دعم كابيل لها أصبحت على وشك أن تصبح مصمّمة أزياء معروفة. وفي عام 1919، أي السنة التي قُتل فيها كابيل في حادث سيّارة، كان قد أصبح عندها مشغلها الخاصّ. وسرعان ما وجدت طريقها إلى مجتمع النبلاء والأثرياء. وأصبح عالمها مأهولا بأشخاص غريبي الأطوار مثل سلفادور دالي وبابلو بيكاسو وجان كوكتو وايغور سترافنسكي، بالإضافة إلى عاشق آخر هو الدوق ديميتري ابن عمّ قيصر روسيا. وعادت شانيل مرّة أخرى لتلعب دور العشيقة، وهو الدور الذي لم تكن تجد في لعبه حرجا أخلاقيا كما يتّضح من سلسلة علاقاتها الكثيرة.
ملابس شانيل كانت تعكس أسلوب حياتها. فقد استبدلت الكورسيهات بالبناطيل الفضفاضة وقدّمت منظورا يتناسب مع النزعة المنادية بحرّية واستقلالية النساء. كما استبدلت أردية السهرة المزخرفة بفستانها الأسود الصغير والمشهور. وبفضلها تنامت شعبية المجوهرات التي تُرتدى مع الملابس والفساتين ذات اللون الواحد وتلك التي بلا ياقة والجاكيتات الطرفية.
كانت كوكو شانيل امرأة ناجحة ومشهورة جدّا. غير أن تداعيات سنوات الحرب أثّرت فعليا على مسيرتها المهنيّة وأوقفت نشاطها مؤقّتا.
وقد أغلقت أعمالها بعد ساعتين فقط من خبر نشوب الحرب العالمية الثانية قائلة: ليس هذا وقت الموضة". وعندما حاولت أن تعود بمجموعة جديدة في فبراير 1954 اختارت خامس يوم في الشهر، رقم الحظ عندها، موعدا لعودتها. لكن ذلك لم يخفّف من قسوة الحكم عليها. فقد سخر من تصاميمها الناس ووجدوا في عملية شدّ الوجه التي أجرتها في سويسرا مادّة للهزء والاستظراف. وما زاد الأمور سوءا هو حقيقة أن منافسها كريستيان ديور كان قد بدأ ينتشر ويشتهر.
ووجدت شانيل بعض العزاء من بعض المشاهير في الولايات المتحدة الذين أشادوا بها باعتبارها الوجه الذي يقف وراء أشهر عطر نسائي في العالم، أي شانيل فايف. وقد ازدادت شعبية ذلك العطر بعد أن نُقل عن مارلين مونرو قولها إنه الشيء الوحيد الذي كانت تضعه في السرير.
عندما ظهر هذا العطر لأوّل مرّة عام 1921 أصبح بسرعة ماركة عالمية. لكنّ أصول العطر ما تزال مجهولة إلى اليوم. وقد قالت شانيل في ما بعد إنها كانت تجد في طبيعة الكوت دازور ملاذا آمنا. في تلك البقعة الهادئة كانت تستنشق عبير الأزهار في الصباح وبعد حلول المساء. وهناك ابتكرت عطرها الأسطوري.
ويقال إن شخصا ما في مكان ما من العالم يشتري زجاجة من هذا العطر كلّ ثلاثين ثانية. وقد اختارت شانيل الرقم خمسة لهذا العطر لأنها في صباها كانت تنتمي إلى طائفة مسيحية تقدّس رمزية هذا الرقم ولطالما اعتبرته علامة تفاؤل وجالبا للحظ السعيد.
وعلى مرّ السنين تمّت الاستعانة بالعديد من نجوم الفنّ والسينما للترويج والدعاية لهذا العطر من أشهرهم الممثلتان الفرنسيتان كاترين دونوف وكارول بوكيه.
إيرادات "شانيل فايف" الكبيرة ساعدت غابريال شانيل على استعادة ثقتها بنفسها واسترداد مكانتها القديمة كخبيرة موضة ومصمّمة مشهورة.
الملابس بالنسبة لـ شانيل كانت للتحرّر والنسيان. كانت ترى أن النساء يجب أن يكنّ قادرات على أن يمشين ويسُقن ويركبن وينسين ماذا يلبسن. وكانت فساتينها مشهورة على نطاق واسع. وأشهرها طبعا ذلك الفستان الوردي الذي كانت ترتديه جاكي كينيدي في دالاس عام 1963 في نفس اليوم الذي قُتل فيه زوجها جون كينيدي وكانت هي إلى جواره.
ويقال إن جاكي كينيدي احتفظت بذلك الفستان في مخزن خاص حتى وفاتها. وما يزال إلى اليوم يحمل آثار دماء زوجها القتيل .
تعترف جيستين بيكاردي في كتابها بأنه في كومة الحكايات التي قيلت عن كوكو شانيل، فإن القيل والقال والتكهّنات والشائعات التي تقرن اسمها بالنازية زمن الحرب ما تزال تلطّخ سمعتها وتشوّه إرث تصاميمها الرائعة.
غير أن المؤلّفة ترى بأن "سلوك شانيل ينبغي النظر إليه في سياق حقبة من التاريخي الفرنسي اتسمت بالإحساس الواسع بالفوضى والحيرة وعدم اليقين".
وفي جزء آخر من الكتاب تقول: صحيح أن هذه المرأة الايقونية غيّرت جذريا طريقة لباس النساء وكيف يبدين للرجال بفضل أفكارها المبتكرة. لكن غاب عنها حقيقة أن المتع البسيطة التي تتوق إليها غالبية النساء في العالم هي أن يعثرن على شريك محبّ ومخلص وأن يُرزقن بأطفال".
كسيّدة أعمال، كانت شانيل قويّة وصارمة. لكن حياتها الخاصّة تكشف عن امرأة ضعيفة جدّا اعتادت استخدام الأقراص المنوّمة والمورفين كحائط دفاع أخير أمام وحشة وأرق الليل.
شانيل التي تكشف عنها بيكاردي هي راوية قصص. إنها تنسج أسطورتها الخاصّة. لكن كلّ واحد من إبداعاتها كان قصّة بحدّ ذاته. وكلّ إبداع كان يحتوي على قصّة خاصّة به".
كان أفضل أصدقائها امرأة بولندية تُدعى ميسيا سيرت. وقد كانت هذه المرأة ملهمة لكلّ من ستيفان مالارميه ومارسيل بروست وكلود ديبوسي وموريس رافيل. كما رسمها كل من اوغست رينوار وأونري لوتريك وبيير بونار. كانت علاقة المرأتين حميمة كثيرا. وقد قالت شانيل ذات مرّة: أينما أحبّت ميسيا، لا ينمو العشب بعد ذلك أبدا".
في أواخر حياتها صرّحت شانيل برغبتها في أن ترى الموضة تموت بسرعة". لكن رمز الموضة عاشت طوال قرن كامل وماتت وهي في سنّ السابعة والثمانين. وما تزال ابتكاراتها وأفكارها الثورية والجريئة مصدر إلهام وإعجاب بالنسبة للكثيرين. "مترجم".
بعض هؤلاء كانوا مجرّد زبائن. لكن العديد منهم كانوا عشّاقا والقليل منهم كانوا متزوّجين. وقد ربطتها أحوال عشق مع عدد من الرجال اللامعين. ومن بين هؤلاء يبرز اسمان مميّزان: الأوّل دوق ويستمنستر هوغ غروسفينور الذي فُتنت به ذات مرّة وتزوّجته. والثاني: رئيس وزراء بريطانيا الأسبق ونستون تشيرشل الذي يعود إليه الفضل في انه أنقذ حياتها من الأخطار والمشاكل أثناء الحرب العالمية الثانية.
خلال الحرب، وكانت شانيل وقتها في أواخر الخمسينات من عمرها، كانت تربطها علاقة برجل كان على صلة بالنازيين. كان ذلك الرجل، واسمه هانز غونتر، يصغرها بثلاثة عشر عاما. وكان يعمل بأوامر مباشرة من وزارة الدعاية النازية ويستخدم من وظيفته كملحق صحفي في باريس غطاءً لأنشطته الجاسوسية. وقد راجت في ذلك الحين نظرية تقول انه كان عميلا مزدوجا وانه كان يعمل سرّا ضدّ النازيين.
في باريس، بعد تحريرها من الاحتلال النازي، استُدعيت شانيل من قبل السلطات الفرنسية للإجابة على بعض الأسئلة. لكن لم يُعرف أبدا أيّ الرجلين، غروسفينور أو تشيرشل، تدخّل لمصلحتها. وقد عادت بسرعة إلى بيتها بعد أن تجنّبت العقوبة المخزية التي كانت تُطبّق بحقّ المتعاملين مع العدوّ الذين كانت تُحلق رؤوسهم ويُعرَضون عراة في شوارع باريس.
في هذا الكتاب تتحدّث الكاتبة البريطانية جيستين بيكاردي عن الفرضية التي تقول إن تشرشل تدخّل بطريقة أو بأخرى من اجلها. وتعيد المؤلّفة إلى الأذهان ما أشيع في حينه من محاولات بُذلت للحيلولة دون الكشف عن الاتصالات الكريهة بين بعض الزعماء النازيين من جهة وبين كلّ من دوق ودوقة وندسور من جهة أخرى".
وعندما سُئلت شانيل في ما بعد عمّا إذا كانت متورّطة مع الألماني أجابت: إن امرأة في مثل سنّي لا يُتوقّع منها أن تنظر إلى جواز سفره إذا كانت لديها فرصة لأن تحبّه".
كانت غابريال شانيل ثمرة لزواج غير شرعي. وقد ولدت في العام 1883 في ملجأ في الريف الفرنسي. وبعد موت أمّها، وهي ما تزال طفلة، تخلّى عنها والدها وأودعها في ملجأ للأيتام. وبعض ذكريات الملجأ، بطبيعته النقيّة والمتقشّفة، ظهرت في ما بعد في تفاصيل منزلها الأنيق على الريفييرا الفرنسية. كما اقتبست بعض عادات وملابس الراهبات في تصاميمها، خاصّة الأصفاد والياقات واستخدام ألوان أحادية مثل الأسود والكريمي.
كانت لدى كوكو شانيل موهبة تلوين الأجزاء غير السعيدة وغير المهمّة من حياتها المبكّرة. وعندما كانت في الثامنة عشرة من عمرها غادرت ملجأ الراهبات وبدأت تعمل كمغنّية في احد الأندية الليلية. ثم تعرّفت إلى الانجليزي بوي كابيل الذي أصبح عشيقها وملهمها. وقد دأبت على تقطيع ملابسه ومن ثم إعادة تصميمها وإضفاء طابع "اندروجيني" عليها بحيث تصلح للرجال والنساء معا.
وبفضل دعم كابيل لها أصبحت على وشك أن تصبح مصمّمة أزياء معروفة. وفي عام 1919، أي السنة التي قُتل فيها كابيل في حادث سيّارة، كان قد أصبح عندها مشغلها الخاصّ. وسرعان ما وجدت طريقها إلى مجتمع النبلاء والأثرياء. وأصبح عالمها مأهولا بأشخاص غريبي الأطوار مثل سلفادور دالي وبابلو بيكاسو وجان كوكتو وايغور سترافنسكي، بالإضافة إلى عاشق آخر هو الدوق ديميتري ابن عمّ قيصر روسيا. وعادت شانيل مرّة أخرى لتلعب دور العشيقة، وهو الدور الذي لم تكن تجد في لعبه حرجا أخلاقيا كما يتّضح من سلسلة علاقاتها الكثيرة.
ملابس شانيل كانت تعكس أسلوب حياتها. فقد استبدلت الكورسيهات بالبناطيل الفضفاضة وقدّمت منظورا يتناسب مع النزعة المنادية بحرّية واستقلالية النساء. كما استبدلت أردية السهرة المزخرفة بفستانها الأسود الصغير والمشهور. وبفضلها تنامت شعبية المجوهرات التي تُرتدى مع الملابس والفساتين ذات اللون الواحد وتلك التي بلا ياقة والجاكيتات الطرفية.
كانت كوكو شانيل امرأة ناجحة ومشهورة جدّا. غير أن تداعيات سنوات الحرب أثّرت فعليا على مسيرتها المهنيّة وأوقفت نشاطها مؤقّتا.
وقد أغلقت أعمالها بعد ساعتين فقط من خبر نشوب الحرب العالمية الثانية قائلة: ليس هذا وقت الموضة". وعندما حاولت أن تعود بمجموعة جديدة في فبراير 1954 اختارت خامس يوم في الشهر، رقم الحظ عندها، موعدا لعودتها. لكن ذلك لم يخفّف من قسوة الحكم عليها. فقد سخر من تصاميمها الناس ووجدوا في عملية شدّ الوجه التي أجرتها في سويسرا مادّة للهزء والاستظراف. وما زاد الأمور سوءا هو حقيقة أن منافسها كريستيان ديور كان قد بدأ ينتشر ويشتهر.
ووجدت شانيل بعض العزاء من بعض المشاهير في الولايات المتحدة الذين أشادوا بها باعتبارها الوجه الذي يقف وراء أشهر عطر نسائي في العالم، أي شانيل فايف. وقد ازدادت شعبية ذلك العطر بعد أن نُقل عن مارلين مونرو قولها إنه الشيء الوحيد الذي كانت تضعه في السرير.
عندما ظهر هذا العطر لأوّل مرّة عام 1921 أصبح بسرعة ماركة عالمية. لكنّ أصول العطر ما تزال مجهولة إلى اليوم. وقد قالت شانيل في ما بعد إنها كانت تجد في طبيعة الكوت دازور ملاذا آمنا. في تلك البقعة الهادئة كانت تستنشق عبير الأزهار في الصباح وبعد حلول المساء. وهناك ابتكرت عطرها الأسطوري.
ويقال إن شخصا ما في مكان ما من العالم يشتري زجاجة من هذا العطر كلّ ثلاثين ثانية. وقد اختارت شانيل الرقم خمسة لهذا العطر لأنها في صباها كانت تنتمي إلى طائفة مسيحية تقدّس رمزية هذا الرقم ولطالما اعتبرته علامة تفاؤل وجالبا للحظ السعيد.
وعلى مرّ السنين تمّت الاستعانة بالعديد من نجوم الفنّ والسينما للترويج والدعاية لهذا العطر من أشهرهم الممثلتان الفرنسيتان كاترين دونوف وكارول بوكيه.
إيرادات "شانيل فايف" الكبيرة ساعدت غابريال شانيل على استعادة ثقتها بنفسها واسترداد مكانتها القديمة كخبيرة موضة ومصمّمة مشهورة.
الملابس بالنسبة لـ شانيل كانت للتحرّر والنسيان. كانت ترى أن النساء يجب أن يكنّ قادرات على أن يمشين ويسُقن ويركبن وينسين ماذا يلبسن. وكانت فساتينها مشهورة على نطاق واسع. وأشهرها طبعا ذلك الفستان الوردي الذي كانت ترتديه جاكي كينيدي في دالاس عام 1963 في نفس اليوم الذي قُتل فيه زوجها جون كينيدي وكانت هي إلى جواره.
ويقال إن جاكي كينيدي احتفظت بذلك الفستان في مخزن خاص حتى وفاتها. وما يزال إلى اليوم يحمل آثار دماء زوجها القتيل .
تعترف جيستين بيكاردي في كتابها بأنه في كومة الحكايات التي قيلت عن كوكو شانيل، فإن القيل والقال والتكهّنات والشائعات التي تقرن اسمها بالنازية زمن الحرب ما تزال تلطّخ سمعتها وتشوّه إرث تصاميمها الرائعة.
غير أن المؤلّفة ترى بأن "سلوك شانيل ينبغي النظر إليه في سياق حقبة من التاريخي الفرنسي اتسمت بالإحساس الواسع بالفوضى والحيرة وعدم اليقين".
وفي جزء آخر من الكتاب تقول: صحيح أن هذه المرأة الايقونية غيّرت جذريا طريقة لباس النساء وكيف يبدين للرجال بفضل أفكارها المبتكرة. لكن غاب عنها حقيقة أن المتع البسيطة التي تتوق إليها غالبية النساء في العالم هي أن يعثرن على شريك محبّ ومخلص وأن يُرزقن بأطفال".
كسيّدة أعمال، كانت شانيل قويّة وصارمة. لكن حياتها الخاصّة تكشف عن امرأة ضعيفة جدّا اعتادت استخدام الأقراص المنوّمة والمورفين كحائط دفاع أخير أمام وحشة وأرق الليل.
شانيل التي تكشف عنها بيكاردي هي راوية قصص. إنها تنسج أسطورتها الخاصّة. لكن كلّ واحد من إبداعاتها كان قصّة بحدّ ذاته. وكلّ إبداع كان يحتوي على قصّة خاصّة به".
كان أفضل أصدقائها امرأة بولندية تُدعى ميسيا سيرت. وقد كانت هذه المرأة ملهمة لكلّ من ستيفان مالارميه ومارسيل بروست وكلود ديبوسي وموريس رافيل. كما رسمها كل من اوغست رينوار وأونري لوتريك وبيير بونار. كانت علاقة المرأتين حميمة كثيرا. وقد قالت شانيل ذات مرّة: أينما أحبّت ميسيا، لا ينمو العشب بعد ذلك أبدا".
في أواخر حياتها صرّحت شانيل برغبتها في أن ترى الموضة تموت بسرعة". لكن رمز الموضة عاشت طوال قرن كامل وماتت وهي في سنّ السابعة والثمانين. وما تزال ابتكاراتها وأفكارها الثورية والجريئة مصدر إلهام وإعجاب بالنسبة للكثيرين. "مترجم".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق